تعرفنا في مقالات سابقة عديدة على اضطراب طيف التوحد، واليوم سوف نتعرف على اضطراب آخر مشابه للتوحد – ولكنه في الحقيقة غالباً ما يكون مخطئاً في التشخيص إن تم – لأنه يخلو من العديد من الأعراض التي تميز التوحد. إنه «اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي» الذي يتميز بأنماط اتصال غير تقليدية ومحرجة، حيث يواجه فيه الفرد صعوبة في التواصل مع الآخرين.
إن الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب لا يعانون من صعوبات في التواصل اللفظي فحسب، بل يواجهون أيضاً صعوبات في التواصل غير اللفظي، وصعوبات في الإدراك الاجتماعي، وصعوبات براغماتية، وصعوبات في معالجة اللغة أيضاً. وهذا ما يجعل الأفراد المصابين يبتعدون، في كثير من الحالات، عن المواقف التي يكون فيها التواصل ضرورياً، وقد يتأخرون أيضاً في الوصول إلى مراحل الاتصال القياسية. ويمكن أن يؤثر هذا الاضطراب على حياة الفرد بشكل جذري، متسببا في المعاناة في علاقاته الشخصية والمهنية. وفي حين أن وجود أحد أعراض الاضطراب ليس بالضرورة مؤشراً على وجود الاضطراب نفسه في فرد معين أو في أحد أفراد أسرته، وإنما يعتبر مؤشرا على أنه يجب طلب المساعدة المتخصصة في معالجة النطق للتشخيص والمساعدة في مكافحته. إنه مرض يستحق منا البحث والدراسة والتعريف لأفراد المجتمع، وللمرضى وذويهم المتضررين حق طلب العلاج.
اضطراب التواصل
للتعرف بعمق على «اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي» وطرق تشخيصه وخطوات علاجه، التقينا بعدد من المتخصصين في هذا المجال. تحدث إلى «صحتك»، أولا، الدكتور وائل عبد الخالق الدكروري، رئيس قسم اضطرابات التواصل في «مجمع عيادات العناية النفسية» بالرياض، وهو أكاديمي وباحث ومستشار لعدد من الهيئات وأستاذ مشارك بكلية الطب بجامعة الملك الفيصل بالرياض، فأوضح أنه من خلال ممارسته العلاجية والإكلينيكية لاحظ وجود كثير من المعلومات المغلوطة والأفكار الخاطئة حول «صعوبات التواصل الاجتماعي واللغوي عند الأطفال» وهو ما يعرف بمصطلح Social (Pragmatic) Communication Disorder، وكذلك في طبيعة الإجراءات الواجب اتخاذها لمساعدة هؤلاء الأطفال. ورغم وجود هذه المشكلات لدى عدد ليس بالقليل من أبنائنا المراجعين لعيادات علاج أمراض النطق واللغة، إلا أنه من الصعب ترجمته لأرقام محددة لحداثة التشخيص وقلة عدد الدراسات المعتبرة والمرجعية التي يمكن الاعتماد عليها إحصائيا.
وأضاف الدكتور وائل بأن نمط الأعراض التشخيصية يتمحور في صعوبة فهم واستخدام اللغة لأهداف التفاعل الاجتماعي حيث تتركز الصعوبات في صعوبة فهم واستخدام قواعد التفاعل الاجتماعي المناسبة لكل موقف مثل تفريق طريقة التفاعل مع الأقران والمعلمين في بيئة المدرسة على سبيل المثال كما يواجهون صعوبة في التفسير والاستخدام الصحيح لقواعد التواصل غير اللفظي مثل التواصل البصري وتعبيرات الوجه بالإضافة لصعوبة الاستنتاج وفهم المقصود ولكن لما لم يقل بشكل مباشر (المعنى المتضمن) كما في النكات والاستعارات التي نستعملها في حديثنا اليومي.
أما عن الأسباب المحتملة لظهور نمط الأعراض المميز لاضطرابات التفاعل الاجتماعي واللغوي فيقول الدكتور وائل الدكروري أن هذه الأسباب، لحد كبير، هي غير محددة، ولكن الطفل قد يكون أكثر عرضة في حال تواجد تاريخ إيجابي في العائلة لحالات اضطراب طيف التوحد أو حالات اضطرابات التواصل أو حالات اضطرابات اللغة.
الأعراض
هناك 8 أعراض شائعة لاضطراب التواصل الاجتماعي اللغوي، وهناك عدد غير قليل من الأعراض المرتبطة باضطراب التواصل الاجتماعي، من أبرزها ما يلي:
– الافتقار للتواصل بالعين (Lacking Eye Contact)أحد أكثر أعراض هذا الاضطراب شيوعاً هو قلة التواصل البصري، والنظر إلى الأسفل أو إلى الجانب أثناء التحدث مع شخص ما، خصوصاً إذا كان من الأعراض المزمنة، يتطلب التفكير في طلب الاستشارة الطبية. ومع ذلك قد يكون، في بعض الحالات، مجرد علامة على أنك لست صريحاً بشأن شيء ما.
– تحية الآخرين بشكل غير لائق (Greeting Others Inappropriately). الميل إلى إلقاء التحية على الآخرين بطرق غير مناسبة. على سبيل المثال، قد يفشل بعض المصابين في قول «مرحباً» للآخرين الذين قالوا «مرحباً» لهم للتو، فيتصرفون كما لو أنهم يتجاهلون الأشخاص الذين استقبلوهم في البداية، أو أنهم يستخدمون عبارات لا معنى لها للتحية أو إيماءات باليد غير مناسبة، مما يربك أولئك الذين يتحدثون إليهم.
– الفشل في تعديل أساليب التواصل (Failing to Alter Communication Styles)، فيكون لدى هذا الشخص أسلوب اتصال واحد يستخدمه لكل التفاعلات، دون تفريق بين الأسلوب الذي يستخدمه في البيت عما يجب أن يكون عليه في المدرسة أو الجامع.
– التحدث بمقاطعة الآخرين (Talking Over Others) الميل للتحدث مقاطعا الآخرين أثناء المحادثات دون اعتبار لمكانة المتحدث الأول.
– استخدام لغة الجسد غير اللائقة (Utilizing Inappropriate Body Language)، فحركات اليد المفرطة لجانب النظر إلى الأرض أثناء التحدث يمكن ربطه بهذا الاضطراب، خاصةً إذا تسبب في ظهور الشخص المصاب بالصلابة أو الإحراج.
– رواية قصص بطريقة مفككة (Telling Stories in a Disjointed Manner)، غالباً ما يعاني الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب من مشكلة في سرد القصص، حيث تواجههم صعوبة في تجميعها معاً بطريقة مباشرة، فتظهر على أنها مشتتة، مفككة، ويصعب متابعتها.
– الفشل في مواصلة الموضوع (Failing to Stay On Topic) أي
عدم القدرة على البقاء في موضوع واحد والميل للانحراف لأفكار أخرى أثناء الحديث، هو مدعاة للقلق إذا كان عادة مزمنة.
8 – التواصل بحرج أثناء المحادثات (Communicating Awkwardly During Conversations)، بسبب قول كلمات لا معنى لها في سياق الحديث، والفشل في إجراء التواصل بالعين، وعدم الاهتمام أثناء المحادثة.
اضطراب نفسي جديد
كما تحدثت لملحق «صحتك» الاختصاصية ريم عبد العزيز الضويلع اختصاصية النطق واللغة بمدينة الملك سعود الطبية وطالبة برنامج ماجستير علاج أمراض النطق واللغة بجامعة الفيصل – وذكرت أن اضطراب التواصل الاجتماعي واللغوي هو تشخيص جديد تم تقديمه في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية في نسخته الخامسة وهو ما يعرف بصعوبة مستمرة في التواصل الاجتماعي اللفظي وغير اللفظي. كما ذكرت الاختصاصية ريم بأن هناك بعض الخصائص التي يجب أن تكون محددة لأجل اكتمال التشخيص وهي محدودية التواصل الاجتماعي مع الآخرين، وجود صعوبة أو تحديات في الجانب الأكاديمي أو الوظيفي، أن تكون هذه الخصائص منذ الطفولة وليست مرتبطة مع اضطراب أو مرض آخر مثل اضطراب طيف التوحد، تأخر اللغة النمائي أو الإعاقة الذهنية.
قد توجد إشكالية في التفريق بين اضطراب طيف التوحد واضطراب التواصل الاجتماعي واللغوي وذلك بسبب أن الخاصية الأساسية لكليهما متشابهة وهي صعوبة في التواصل مع الآخرين، ولكن في حالة اضطراب طيف التوحد فإن ضعف التواصل الاجتماعي هو أحد خصائص طيف التوحد بالإضافة إلى أنماط سلوكية مستمرة ومقيدة.
• معدل الإصابة والانتشار. تقول الاختصاصية ريم الضويلع أنه بالرغم عن قلة الدراسات الإحصائية، إلا أنه وفقاً لدراسةKetelaars، et al 2009)) والتي أجريت على ألف وثلاثمائة طفل في مرحلة الحضانة، وجد أن نسبة الإصابة باضطراب التواصل الاجتماعي اللغوي هي حوالي 7.5 في المائة عند الأطفال وكانت نسبة الإصابة عند الذكور أعلى مقارنة بالإناث، كما وجد أن المعدل يرتفع إلى 23 في المائة – 33 في المائة بين الأطفال الذين يعانون من اضطرابات اللغة.
• مسار اضطراب التواصل خلال فترة النمو. وفقاً لدراسة أخرى أجريت أيضاً من قبل (Ketelaars، et al 2015)، فإن اضطراب التواصل الاجتماعي اللغوي يستمر خلال فترة نمو الطفل، وفي حال تم تشخيصه وعلاجه فإن مستوى الطفل الأكاديمي يتحسن وقد يكون له مستقبل مهني واعد مقارنة باضطراب طيف التوحد أو تأخر اللغة النمائي.
التشخيص والعلاج
كيف يتم تشخيص اضطراب التواصل الاجتماعي واللغوي؟ أوضحت الاختصاصية ريم الضويلع أن التشخيص يبدأ بإجراء تقييم مبدئي من قبل اختصاصي التخاطب واللغة، يتضمن الآتي:
– تقييم اللغة وسلامة النطق واستخدام اللغة في محلها الصحيح للتواصل.
– قد يحتاج البعض من الأطفال لعمل تقييم مفصل ومنظم لاستخدام اللغة والتواصل البراغماتي.
– بالإضافة ذلك تتم مقابلة الطفل ومراقبة تواصله مع الآخرين في أكثر من بيئة مثل المنزل والمدرسة.
– تتم تعبئة استبيان من قبل الطفل أو أهله أو بواسطة المعلم/ المعلمة في المدرسة.
– ولضمان أن تكون النتائج أكثر دقة، يجب أن يكون التقييم محافظاً على ثقافة المريض وبيئته ويتم إجراؤه من قبل فريق طبي متكامل يتضمن اختصاصي التخاطب واللغة، اختصاصي نفسي وبمشاركة الأهل والمعلمين من المدرسة.
أما الخطة العلاجية فتشمل:
أولا: تبعاً لمنظمة الصحة العالمية فإن خطة علاج اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي تتضمن الخطوات التالية:
– الاستفادة من نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف التي تؤثر على التواصل الاجتماعي.
– تسهيل أنشطة الشخص والمشاركة في التفاعلات الاجتماعية من خلال مساعدة الشخص على اكتساب مهارات واستراتيجيات جديدة للتواصل مع الآخرين.
– تعديل سياق الحديث الذي يكون بمثابة حواجز أو صعوبات لتعزيز نجاح التواصل والمشاركة مع الآخرين.
ثانيا: وفقاً للجمعية الأميركية لأمراض التخاطب واللغة والسمع، يتم الأخذ في الاعتبار لما يلي في الخطة العلاجية:
– أهمية إشراك الشخص والعائلة في الخطة العلاجية.
– النظر في اختلاف ثقافة الفرد والقيم من شخص لآخر.
– التركيز على الأهداف والنتائج المحققة.
– تمكين الأهداف لأن تلبي احتياجات الشخص المخصصة له في مختلف المواقف الاجتماعية.
ثالثا: أكد الدكتور وائل أن للأسرة دورا كبيرا في مساعدة الأطفال الذين يعانون من اضطراب التفاعل الاجتماعي واللغوي ويتمثل في كيفية التعامل مع التحديات المختلفة التي تظهر على نمط التفاعل مثل صعوبة إجراء حديث والاستمرار فيه وهو ما قد يتطلب تطبيق بعض الاستراتيجيات، مثل:
– قراءة الكتب: حيث إنه ينصح أثناء القراءة مع الطفل أن نوجه له أسئلة عن محتوى القصة وشخصياتها وما يشعرون به وما يجب أن يفعلوا ولماذا.
– اللعب مع الأصدقاء: ويتم من خلال تنظيم نشاطات لعب مع أطفال في نفس عمر الطفل المريض والتخطيط لهذه الأنشطة بحيث تتضمن مشاركة الجميع، كما يتم تمرير قيادة النشاط على كل الأطفال بحيث يستطيع الطفل المريض ممارسة هذا الدور مع محاولة تغيير المكان بحيث يكون مرة في المنزل ومرة أخري في أحد الحدائق وثالثة في منزل طفل آخر.
– مشاركة الأسرة في اللعب مع الطفل: يتم توجيه أسرة الطفل المريض للقيام بمحاولة اللعب مع الطفل باستخدام ألعاب تتضمن احترام الدور مع مراعاة التحدث مع الطفل أثناء اللعب وسؤاله عما يشعر وما سيفعل في دوره، ويجب على الأهل ضرورة تشجيعه، وبشكل دائم.
• استشاري طب المجتمع