إحدى الحقائق المُلاحظة، أن بعض الأفراد الذين يعانون من السمنة قد يتمتعون بصحة جيدة نسبياً رغم ارتفاع كمية الشحوم في الجسم لديهم وزيادة وزنه الإجمالي، بخلاف غيرهم الذين تتسبب لهم السمنة بمضاعفات صحية متعددة، غالبها مرتبط بتداعيات أيضية ذات صلة بالعمليات الكيميائية الحيوية للتمثيل الغذائي داخل الجسم.
– فرضية جديدة
وتظل هذه الملاحظة الشائعة محيّرة للكثيرين منا، ويصعب علينا فهمها. ولكن أحد الفرضيات المطروحة اليوم تفيد بأن الأمر له علاقة بوجود «جينات الحظ» Lucky Genes لدى البعض دون غيرهم؛ ما يجعلهم في أمان من بعض تداعيات ومضاعفات السمنة. وقد يكون هذا التعليل صحيحاً، على الأقل وفق ما توصلت إليه دراسة جينية واسعة ومتعمقة لباحثين من عدد من مراكز البحث العلمي في المملكة المتحدة، وتم نشرها ضمن عدد 25 يناير (كانون الثاني) من مجلة «إي لايف» eLife العلمية. ومُوّلت هذه الدراسة من قِبل منظمة السكري في المملكة المتحدة، ومجلس البحوث الطبية في المملكة المتحدة، والصندوق العالمي لأبحاث السرطان، والمعهد الوطني للسرطان.
ومن ضمن نتائج هذه الدراسة الطبية، أفاد الباحثون بملاحظتهم أن من بين الأشخاص المصابين بالسمنة، ثمة لدى البعض منهم «جينات الحظ» التي ورثوها. وتبعاً لهذا «الحظ»؛ كان لديهم توزيع «مُفضّل» للدهون في الجسم. ونتيجة لذلك؛ كانوا أقل عرضة للإصابة بـ11 مرضاً متعلقاً بالتأثيرات الأيضية Metabolic للدهون. وذلك مقارنة بالأشخاص الذين لم يرثوا «جينات الحظ» تلك، وكانت لديهم متغيرات جينية غير مواتية للسمنة.
وأوضحوا سبب وصفها بأنها «غير مواتية للسمنة» هو تأثيرها على آلية توزيع تراكم الشحوم في مناطق الجسم المختلفة. ذلك أنه بالإضافة إلى خزن الدهون تحت الجلد في جميع أنحاء الجسم لدى عموم منْ لديهم سمنة، فإن الذين لم يرثوا «جينات الحظ» يكون لديهم أيضاً خزن مزيد من الدهون في «أماكن خطأ» داخل الجسم. وتحديداً فيما حول عدد من أعضاء الجسم، وكذلك في داخل عدد من أعضاء الجسم، مثل البنكرياس والكبد والعضلات والقلب. وتراكم الشحوم هذا (حول وفي داخل عدد من أعضاء الجسم)، هو ما يرتبط بزيادة عُرضة الإصابة بالاضطرابات المرضية لعمليات التمثيل الغذائي، والتي من أهم أمثلتها كل من أمراض القلب ومرض السكري من النوع 2.
وفي المقابل، كان الأشخاص الذين لديهم متغيرات جينية «مواتية للسمنة» Favorable Adiposity Gene Variants، يخزنون الدهون تحت الجلد بكميات أكثر، ولا تتراكم لديهم الشحوم في «أماكن خطأ» داخل أجسامهم.
– تنوع خزن الشحوم
ووفق ما تفيد به المصادر الطبية، فإن الذين لديهم سمنة مع زيادة محيط البطن بالذات، هم أعلى عُرضة لارتفاع مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، نتيجة ارتفاع كميات الدهون المتراكمة على هيئة «شحوم حشوية» Visceral Fat و«شحوم مُنتبذة» Ectopic Fat. وذلك بخلاف الذين تتراكم الشحوم لديهم في مناطق الأرداف والفخذين وتحت الجلد في بقية مناطق الجسم. وتضيف تلك المصادر، أن تخزين الفائض من الشحوم في الجسم على هيئة «شحوم حشوية» حول أعضاء تجويف البطن والصدر، مثل الكبد والبنكرياس والكلى والأمعاء والقلب، هو أمر غير طبيعي وله تأثيرات صحية سلبية مباشرة. وكذلك من غير الطبيعي أن تتراكم الشحوم على هيئة «شحوم مُنتبذة» لتُخزن في داخل أنسجة أعضاء الجسم، مثل الكبد والعضلات والقلب والبنكرياس والكلى. وهي الأعضاء التي من المفترض طبيعياً ألا تتراكم فيها الدهون. وتؤكد نتائج العشرات من الدراسات الطبية، أن زيادة تراكم «الشحوم الحشوية» و«الشحوم المُنتبذة» إحدى الآليات الرئيسية في تطور الإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري، وكذلك الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
وفي نتائج إحدى الدراسات السابقة، تم نشرها في سبتمبر (أيلول) 2019 من مجلة «القلب» الأوروبية، لباحثين من كلية ألبرت آينشتاين للطب بولاية نيويورك، فإن الوظائف البيولوجية للأنسجة الدهنية تختلف باختلاف المكان الذي تتراكم فيه الشحوم داخل الجسم. ولذا تتسبب الشحوم في الجزء العلوي من الجسم (جذع الجسم) والشحوم في الجزء السفلي من الجسم، في آثار صحية متناقضة، أي ضارة في مقابل مفيدة. وثمة الكثير من الأدلة العلمية على أن ارتفاع كتلة شحوم البطن والصدر والظهر (جذع الجسم) هو عامل قوي في التسبب باضطراب عمليات التمثيل الغذائي، والتي من أوضح أمثلتها حالة ارتفاع مقاومة أنسجة الجسم لمفعول هرمون الأنسولين Insulin Resistance. وكلما زادت مقاومة أنسجة الجسم للأنسولين، ارتفعت خطورة الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. بينما يصاحب ارتفاع تراكم الشحوم في الأرداف والفخذ والساق، انخفاض في خطر حصول اضطرابات عمليات التمثيل الغذائي الأيضية Metabolic Disturbances، وبالتالي انخفاض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
– «جينات دهنية»
وعلّق الباحثون في الدراسة البريطانية الجديدة بقولهم «بعض الناس لديهم جينات دهنية سيئة الحظ، مما يعني أنهم يخزنون مستويات أعلى من الدهون في كل مكان، بما في ذلك تحت الجلد وحول الكبد والبنكرياس. وهذا مرتبط بارتفاع مخاطر الإصابة بأمراض مثل مرض السكري من النوع 2. والبعض الآخر أكثر حظاً لأن لديهم جينات تعمل على ارتفاع خزن الدهون تحت الجلد، مع انخفاض تراكم الدهون في الكبد، وانخفاض مخاطر الإصابة بأمراض مثل مرض السكري من النوع 2».
وهدف الباحثون بشكل رئيسي إلى التفرقة ما بين تداعيات ومضاعفات السمنة التي لها علاقة باضطراب عمليات الأيض الكيميائية الحيوية، وبين تداعيات ومضاعفات السمنة ذات العلاقة فقط بزيادة كتلة الجسم.
ومن بين 37 مرضاً مزمناً مرتبطاً بالسمنة، وجد الباحثون أن التأثيرات الأيضية Metabolic للسمنة هي على الأرجح السبب الرئيسي للأمراض الـ11 التالية: مرض السكري من النوع 2، متلازمة تكيس المبايض، مرض الشرايين التاجية للقلب، أمراض الشرايين الطرفية، ارتفاع ضغط الدم، السكتة الدماغية، قصور ضعف القلب، والرجفان الأذيني AF، وأمراض الكلى المزمنة، وسرطان الكلى، والنقرس.
وفي الوقت نفسه بالمقابل، تتسبب زيادة الوزن نفسها بارتفاع الإصابات بـ9 أمراض أخرى مرتبطة بالسمنة ولا علاقة لها بشكل مباشر مع اضطرابات التأثيرات الأيضية للسمنة Nonmetabolic، وهي: روماتزم المفاصل (الفصال العظمي) OA، والتهاب المفاصل الروماتويدي RA، وهشاشة العظام، وارتجاع أحماض المعدة إلى المريء GERD، وحصى المرارة، والربو الذي يبدأ لأول مرة بعد البلوغ Adult – Onset Asthma، والصدفية، وتجلط الأوردة العميقة، والجلطات الدموية الوريدية.
وقال الباحثون «الأشخاص المصابون بالسمنة ولديهم متغيرات جينية غير مواتية للسمنة، معرّضون لخطر أكبر للإصابة بجميع الأمراض العشرين؛ لأنهم يتعرضون لضربة مضاعفة من جهتين لكل من: التأثيرات الميكانيكية لزيادة الوزن، والتأثيرات الأيضية السلبية للسمنة». ولكنهم استدركوا، أن امتلاك البعض الآخر منهم للجينات الجيدة (جينات الحظ) ليس بديلاً عن ضرورة إتباع النمط الصحي في سلوكيات الحياة اليومية، وذلك بقولهم «في حين أنه من المهم أن نحدد أسباب الأمراض المرتبطة بالسمنة، فإن الجينات الجيدة لا تحل محل اتباع أسلوب حياة صحي». وأضافوا «الأشخاص الذين لديهم متغيرات جينية أكثر ملاءمة للسمنة، ما زالوا معرّضين لخطر الإصابة بالأمراض التسعة التي لا تسببها التأثيرات الأيضية بل الناجمة عن تأثير الوزن الزائد» بحد ذاته.
– تأثيرات اختلاف توزيع تراكم الشحوم في مناطق الجسم
> العلامة الرئيسية للسمنة هي زيادة كتلة الشحوم في الجسم، وليس زيادة وزن كتلة العضلات، أو كتلة الهيكل العظمي، أو حجم أعضاء الجسم الطبيعية، أو كمية الماء في الجسم. واليوم، يتقدم الفهم الطبي لحالة السمنة، من 3 نواح رئيسية، هي: أسباب الإصابة بالسمنة، كيفية التعامل العلاجي معها، وآلية حصول تداعياتها ومضاعفاتها.
وخلال العقود الماضية، أفادت نتائج المئات من الدراسات الطبية الاكلينيكية والدراسات الوبائية، في تكوين فهم متسلسل لآلية حصول تداعيات ومضاعفات السمنة وعلاقتها بزيادة تواجد الشحوم في الجسم، وذلك من خلال النقاط التالية:
– كتلة الأنسجة الشحمية في عموم أرجاء الجسم، هي «عضو»، أسوة بالجلد وكتلة الأنسجة العظمية وكتلة العضلات وغيرها. وتُصنف كتلة الشحوم ككل، ضمن منظومة الغدد الصماء في الجسم.
– «العضو الشحمي» لا يعمل فقط كمستودع لخزن الطاقة على هيئة دهون، بل يقوم بعدد من الوظائف البيولوجية المهمة ذات التأثيرات الحيوية.
– كتلة الأنسجة الشحمية لا تتواجد في مكان واحد، بل تتوزع في أرجاء الجسم على هيئات مختلفة، وهي «شحوم تحت الجلد»، و«شحوم حشوية»، و«شحوم مُنتبذة».
– الوظائف البيولوجية للأنسجة الشحمية المتوزعة في الجسم، تختلف حسب أماكن تراكمها في أجزاء الجسم المختلفة. وهذا الاختلاف الوظيفي هو نتيجة لاختلاف «الخصائص التشريحية» لمكونات شحوم المناطق المختلفة بالجسم، من نواحي نوعية الخلايا الدهنية والمكونات الأخرى للنسيج الشحمي.
– هذا الاختلاف في أماكن تواجد الشحوم، يعني أن ليست كل الشحوم المتراكمة في الجسم «متشابهة التأثير» في احتمالات رفع الإصابات بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكري.
– «الشحوم الحشوية» و«الشحوم المُنتبذة» (يتم قياسها إكلينيكياً بدقة بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسيMRI)، هي عامل خطر مستقل لاحتمالات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكري والوفيات بسببهم.
– لا يجدر الاعتماد فقط على مقدار عدد كيلوغرامات الجسم، أو «مؤشر كتلة الجسم» BMI؛ لأن ذلك لا يُقيم كيفية توزيع الشحوم في أجزاء الجسم. ولكن زيادة «محيط الخصر» Waist Circumflex هي عامل خطورة للإصابة بأمراض القلب، حتى لو كان مؤشر كتلة الجسم ومقدار وزن الجسم ضمن المعدلات الطبيعية.
– توزيع تراكم الشحوم في منطقة البطن وتأثيراته
> في غالبية حالات السمنة يزيد تراكم الشحوم في منطقة البطن. وبالتدقيق التشريحي لتطور عمليات التراكم تلك، تتوزع الشحوم في ثلاث مناطق بالتسلسل التالي:
– يبدأ أولاً تراكم الشحوم البيضاء «تحت» جلد جدار البطن.
– ثم تبدأ الشحوم الحشوية بالتراكم فيما «حول» الأعضاء داخل تجويف البطن (وداخل تجويف الصدر).
– ثم بعد ذلك تبدأ الشحوم المُنتبذة بالتراكم «داخل» أعضاء البطن، كالكبد والبنكرياس والكلى والعضلات، (وكذلك القلب في الصدر).
ووفق ما تفيد به المصادر الطبية، الشحوم التي تحت جلد جدار البطن، ليست مرتبطة بشكل «مباشر» بزيادة الإصابة بالأمراض المزمنة. ولكن الشحوم الحشوية والمُنتبذة في داخل تجويف البطن هي التي قد تتسبب بالضرر كتداعيات ومضاعفات للسمنة.
وللتوضيح، فإن «الشحوم الحشوية» نشطة جداً في العمليات الكيميائية الحيوية ذات التأثيرات السلبية؛ لأنها تحتوي على خلايا وأوعية دموية وأعصاب أكثر من الشحوم البيضاء الموجودة تحت الجلد. ونتيجة لذلك النشاط السلبي، تنتج «الشحوم الحشوية» عدداً من الهرمونات والبروتينات الالتهابية ومواد كيميائية أخرى. وهذه ضارة لأنها تتسبب بزيادة مقاومة الأنسولين (الذي ينظم مستويات السكر في الدم)، ونشاط عمليات الالتهابات. وهي عوامل ترفع خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، أمراض القلب والأوعية الدموية، ومرض السكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات الكوليسترول، وغيره.
و«الشحوم المُنتبذة» بتواجدها الخاطئ «في أماكن غير طبيعية»، أي داخل أعضاء لا تحتوي في الحالات الطبيعية على تلك الكميات من الدهون (كالكبد والقلب والبنكرياس والكلى والعضلات)، فإنها تتسبب بتأثيرات «موضعية» ضارة في داخل العضو التي تتواجد فيه، وتأثيرات «عامة» ضارة على الجسم.
وعلى سبيل المثال، حينما تراكم الشحوم في خلايا الكبد، أو ما يُعرف بـ«الكبد الدهني» Fatty Liver، فإن ذلك قد يتسبب بارتفاع احتمالات التهاب الكبد الدهني Steatohepatitis، وتليّف الكبد Liver Fibrosis ونمو ندبات ليفية داخل الكبد Liver Scarring.