في هذه الحلقة الخامسة من الكتاب الجديد للأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى «سنوات الجامعة العربية»، الذي سيصدر قريباً عن «دار الشروق» وحرره ووثقه خالد أبو بكر، نستعرض جهود موسى والجامعة العربية في أزمات السودان، التي خصص لها فصلين على مساحة 44 صفحة، تناول الأول، الأزمة بين شمال السودان وجنوبه التي انتهت بانفصال الجنوب، فيما خصص الثاني للأزمة السياسية والإنسانية التي عاشها إقليم دارفور اعتباراً من مارس (آذار) 2003.
ويكشف عمرو موسى في هذا الكتاب أن زعيم الحركة الشعبية جون قرنق قال له إنه يريد أن يكون رئيساً للسودان كله، سائلاً: «ما قيمة أن أكون زعيماً لدولة في جنوب السودان فقيرة وضعيفة ومغلقة؟». ويوضح أنه طلب من قادة السودان «العمل على ترغيب الجنوبيين في الوحدة لكنهم اعتبروا الانفصال قدراً محتوماً»، معتبراً أن اتفاق السلام مع الحركة الشعبية كان ملهماً لكل حركات التمرد في كل مناطق السودان، واصفاً الجميع في دارفور بأنهم كانوا «ضحايا وجلادين».
السودان وقضاياه وصراعاته التي لا تهدأ واحد من أهم شواغلي منذ بداية حياتي المهنية في الدبلوماسية المصرية. تعزّز هذا الاهتمام الاستثنائي بالسودان طيلة السنوات العشر التي قضيتها وزيراً لخارجية مصر. كان طبيعياً أن يستمر هذا الاهتمام بالسودان خلال العقد التالي الذي قضيته أميناً عاماً لجامعة الدول العربية؛ ذلك أنه خلال تلك الفترة كانت أعمدة النار والدخان تحاصر هذا البلد المترامي من معظم الجهات. كانت هناك الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، وأزمة دارفور، وتمرد محلي في أكثر من ولاية، والاضطرابات مع تشاد في الغرب، بجانب تدهور العلاقات مع إريتريا وأحياناً إثيوبيا في الشرق، ناهيك بالاضطرابات في العلاقة المصرية – السودانية من فترة لأخرى لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى البعد الليبي غير المستقر.
– قضية جنوب السودان
هناك عوامل عدة تضافرت في إحداث وتغذية ذلك الصراع بين الجنوب والشمال، منها التعددية العرقية في السودان، بما في ذلك في جنوبه، وتمايزها عن الشمال، وكذلك التعددية الدينية في الجنوب، بجانب الصراع على الموارد ومداخيلها بين الشمال والجنوب، فضلاً عن سياسة التهميش التي وقعت فيها الحكومات المركزية السودانية تجاه الأطراف كافة، وفشل هذه الحكومات المتعاقبة في تعزيز قيم المواطنة، التي تنصهر فيها النزاعات العرقية والدينية والقبلية. ولا ننسى أيضاً جهود بريطانيا الاستعمارية في تفجير النزعة الانفصالية وتكريسها لدى سكان جنوب السودان، عبر تعزيز دور البعثات التبشيرية، وسياسة إضعاف الثقافة العربية، وإحلال الموظفين الجنوبيين محل الشماليين، ومنع التجار الشماليين من الوصول إلى الجنوب.
في 20 يوليو (تموز) 2002، وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية «بروتوكول مشاكوس» في كينيا، الذي قبلت به الجامعة العربية في حينه بعد أن وقعت عليه حكومة السودان (فلم يكن للجامعة أن تصبح ملكية أكثر من حكام السودان)، والذي تضمن وثيقتين: الأولى تقضي بتمديد الهدنة القائمة حتى نهاية مارس 2003، والثانية تغطي عدداً من النقاط التي قبل بها الطرفان مبدئياً، وهي تتعلق باقتسام السلطة والثروة، لكن دون الإقرار بأي موقف حاسم بشأنها. واتفق الطرفان على إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي يقطنها غير المسلمين وإجراء استفتاء في الجنوب على الانفصال أو الوحدة بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات.
بعد ذلك التوقيع، حددت بعد التشاور مع الحكومات العربية المعنية جهود الجامعة العربية فيما يخص الصراع بين شمال وجنوب السودان في جانبين أساسيين، يتعلق أولهما بدفع عملية السلام والمفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، وحثهما على إبرام وتوقيع اتفاق سلام شامل ربما يساعد في الوحدة، وثانيهما بدعم التنمية وإعادة الإعمار في المناطق التي تضررت من الحرب.
قبلها كنت استقبلت في مقر الجامعة بالقاهرة في مارس 2002 زعيم الحركة الشعبية جون قرنق الذي أعرب عن توجهات وحدوية، مطالباً بدعم الجامعة العربية لتلك التوجهات. بنيت على ذلك اللقاء المثمر، وأرسلت بعثة عربية برئاسة السفير سمير حسني، مدير إدارة أفريقيا بالجامعة العربية، في أبريل (نيسان) 2003 إلى مدينة رومبيك الجنوبية مقر قيادة الحركة الشعبية فى جنوب السودان، وتعد هذه البعثة العربية الأولى التي تزور تلك المنطقة، للتأكيد على التزام الجامعة العربية ومؤسساتها بالمساهمة الفاعلة في تنمية جنوب السودان والمناطق المتأثرة بالحرب، وجعل الوحدة خياراً طوعياً جاذباً.
يجب أن أتوقف هنا لأتحدث عن قرنق الذى ربطني به تفاهم خاص، فتعددت لقاءاتي به بعد زيارته الأولى لمصر سنة 1997؛ فموقفه تطور تطوراً متدرجاً، فبدلاً من النضال لتحقيق انفصال الجنوب صار النضال من أجل الحقوق المتساوية بين كل السودانيين فى أنحاء السودان كافة بما في ذلك الجنوب، وذلك في إطار الشعار الذي رفعه وهو «السودان الجديد» الجامع لكل الأعراق والديانات. وربما كان هذا التطور في موقف زعيم الحركة الشعبية من الأسباب التي أسهمت في اختفائه المؤسف من الحالة السياسية في السودان.
كان قرنق يقول لي في كل لقاء يجمعني به: «ما قيمة أن أكون زعيماً أو رئيساً لدولة جنوب السودان الفقيرة الضعيفة الصغيرة المغلقة؟… أنا أريد أن أكون رئيساً للسودان كله… هذا حقي ما دمت مواطناً سودانياً»… كنت أحيي فيه ذلك التوجه وأؤيده، إلا أن رؤيته تلك لم تلقَ ترحيباً من أي من الأطراف الفاعلة في المسألة السودانية… أفارقة كانوا أم عرباً أم غربيين، بل ومن زعماء السودان (الشمالي)، ولكنني أعتقد أنه لو قدر لقرنق أن يحقق بداية جديدة على أساس فكرة «السودان الجديد» مع فرصة ترشحه للرئاسة، لربما أخذت الأحداث مساراً آخر مختلفاً تماماً، إذ كان من شأن ذلك خلق ديناميكيات مختلفة لم يرد أي من الأطراف لها أن تخلق.
– اتفاق السلام الشامل
تلبية لدعوة الحكومة الكينية، شاركت في 9 يناير (كانون الثاني) 2005، مع العديد من القادة العرب والأفارقة في مراسم توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بنيروبي. نص الاتفاق الشامل على وقف دائم لإطلاق النار وإقامة فترة انتقالية مدتها 6 أعوام يتعاون خلالها الشمال والجنوب في حكم البلاد، ويكلف قرنق بمسؤوليات النائب الأول للرئيس السوداني. كما نصت الاتفاقية على تقاسم عائدات النفط، وحق الحركة الشعبية وحلفائها الجنوبيين في تشكيل حكومة للجنوب لإدارة شؤونه بالكامل لفترة 6 سنوات تنتهي بتصويت سكان الجنوب ومنطقة أبي الغنية بالنفط في استفتاء يجرى في 9 يناير 2011 على الانفصال عن شمال السودان أو الوحدة معه.
كان يجلس بجواري في أثناء مراسم التوقيع الصاخبة التي جرت في استاد نيفاشا بنيروبي، أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر وقتئذ. في أثناء مراسم التوقيع شردت بعيداً. كنت أرى أن الأمور تسير بالتأكيد نحو انفصال الجنوب. يبدو أن أبو الغيط كان يفكر فيما كنت أفكر فيه. فقد قطع عليّ شرودي بأن قال لي: أستطيع أن أقول لك يا عمرو بك إنه بالتوقيع على هذا الاتفاق سينتهي الأمر إلى التقسيم.
قلت: بالفعل، هذا ما أتوقعه، لكن علينا ألا نستسلم. يجب أن نبذل قصارى جهدنا لحث الجنوبيين على التصويت لخيار الوحدة في 9 يناير 2011. اتفق معي أحمد في ذلك. وهو ما عملت الجامعة العربية ومصر على تحقيقه.
يمكن القول إن عملاً كبيراً قد تحقق من خلال الاجتماعات التنسيقية التي عقدتها الجامعة العربية لدفع منظومة العمل العربي المشترك للقيام بدور بارز في الإسهام في التنمية بجنوب السودان وجعل وحدة السودان خياراً جاذباً، وشارك في هذه الاجتماعات صناديق التمويل العربية والمنظمات العربية المتخصصة والاتحادات في المجالس الوزارية العربية. وكانت حصيلة قيمة المشروعات التي دخلت حيز التنفيذ الفعلي في جنوب السودان أكثر من 200 مليون دولار في مجالات الطرق والمياه والكهرباء ومجال الخدمات، خصوصاً التعليم والصحة.
لقد بذلت الجامعة العربية جهوداً ملموسة وقامت بأدوار فاعلة للمساعدة في التوصل إلى حل سلمي شامل للمسألة السودانية، غير أن أداء النظام العربي عانى ولا يزال يعاني من الفجوة الواضحة بين اتخاذ القرار وعدم تنفيذه، فلقد قررت قمة بيروت إنشاء الصندوق العربي لتنمية جنوب السودان بمساهمات مالية من الدول العربية، غير أن هذا الصندوق لم يتلقَّ إسهامات تذكر. كما اتخذ مجلس الجامعة بعد ذلك قراراً يدعو الدول الأعضاء إلى معالجة ديون السودان العربية بهدف تمكين السودان من مواجهة تحديات بناء السلام والوحدة، لكن ذلك لم يحدث أيضاً.
– الاستفتاء على الانفصال
جرى استفتاء الشعب السوداني في جنوب السودان بشأن استمرار الوحدة مع الشمال وبين الانفصال، فاختاروا الانفصال. والواقع أنني بصفتي المصرية، وبصفتي أميناً عاماً لجامعة الدول العربية كنت معارضاً لتقسيم السودان، وتحدثت فى هذا مطولاً مع الرئيس (السابق عمر) البشير والصادق المهدي وعثمان الميرغني وآخرين مشجعاً على رفض الانفصال (التقسيم)، وداعياً إلى عدم التساهل أو الخضوع لمخططات الانفصال، ولكن تبدت لي هنا جملة من الأمور:
1- كان واضحاً أن هناك تسليماً منهم بحصول الانفصال كقدر محتوم.
2- كانت الشطحات الدينية لنظام البشير تفضل إعمال الشريعة الإسلامية على السودان كله، فإن لم يكن فعلى الأقل على شمال السودان ولو أدى إلى انفضال الجنوب!!!
3- مصرع قرنق الذي كان في رأيي قادراً على تدوير عدد من الزوايا الحادة في العلاقة بين الشمال والجنوب، وبين التوجهات الإسلامية ومتطلبات الوحدة السودانية. كما بين السياسة التقليدية السودانية والنظرة المستقبلية التي تقبل بسودان مختلف وعلى درجة غير مسبوقة من الانفتاح.
4- القوى المتنفذة التي استقر رأيها على تقسيم السودان، من قوى عظمى وقوى إقليمية وقوى سودانية جنوبية وشمالية… كانت ترى في انفصال الجنوب حلاً لمعضلات كثيرة مع الأسف الشديد.
– الأزمة السياسية والإنسانية في دارفور
ما توقعته بعد توقيع اتفاق مشاكوس بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان الانفصالية في 20 يوليو (تموز) 2002، الذي تضمن فيما تضمن وثيقة مبدئية تتعلق باقتسام السلطة والثروة بين شمال وجنوب السودان (مع تفاصيل عديدة) قد حصل؛ ذلك أن هذا الاتفاق كان ملهماً لحركات متمردة في دارفور، رأت أن القتال وحده هو ما يجلب نظام البشير إلى طاولة المفاوضات، في سياق مساعي هذه الحركات للبحث عن صيغة لتقاسم السلطة والثروة في ذلك الإقليم، الذي يعاني التهميش والإهمال شأن بقية الأقاليم السودانية، ولتقاسم السلطة والثورة في السودان بعمومه.
شيئاً فشيئاً بدأ تسخين الصراع في دارفور إلى أن وصل الموقف إلى النقطة التي فجرته وقادت إلى مأساة إنسانية كبيرة لسكان الإقليم بكل مكوناتهم العرقية، تلك النقطة كانت في مارس 2003، عندما ثار متمردون ضد البشير، بدعوى تعرضهم للتهميش، وأعلنت حركتان مسلحتان هما حركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة تمردهما. هاجم مسلحو الحركتين مدينة الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، ونجحوا في تدمير 7 طائرات بمطار المدينة.
وهو ما ردت عليه الحكومة باستراتيجية معروفة لدى الحكومات السودانية لمكافحة التمرد منذ عهد الصادق المهدي في الثمانينات من القرن الماضي تستند إلى حشد الميليشيات العربية المعروفة باسم «الجنجويد» المشهورة بشراستها لمكافحة المتمردين. في سياق الحديث عن أزمة دارفور والعوامل المؤدية لها، لا بد من الحديث عن تهميش الإقليم كله من قبل الحكومة المركزية وانعدام مشاريع التنمية والخدمات الأساسية من تعليم وصحة… إلخ.
– هل طرفا الصراع ثابتان في دارفور؟
قبيل استعراض تفاصيل ومراحل الأزمة السياسية والإنسانية في دارفور منذ سنة 2003، ودور الجامعة العربية في محاولة التوصل إلى حلول لها بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، أود أن أنبه إلى أن هناك تصوراً خاطئاً يقع فيه الكثيرون، حاولت تصديره دوائر غربية لدق إسفين داخل العالم العربي والإسلامي عبر دارفور التي تسكنها أغلبية مسلمة كاسحة، بإبراز الحرب كأنها بين «المسلمين الأفارقة» و«المسلمين العرب»، وهو الأمر الذي يمكن أن تكون له انعكاساته وتداعياته السلبية وإشارة غير محمودة إلى «الإسلام العربي» و«الإسلام الأفريقي».
عمدت تلك الدوائر – ولا تزال – على تصوير أن طرفي هذا الصراع الذي استمر منذ 2003 وحتى الآن (2018) ثابتان (عرب وأفارقة)، دون إدراك لتلك الانقلابات المستمرة في التحالفات في دارفور، ناهيك بالانشطارات المتوالية للكتل الرئيسية في هذا الصراع، سواء على صعيد القبائل الداعمة للتمرد، أو تلك الداعمة للحكومة. فبعد أن استعانت الحكومة بقبائل عربية لمواجهة قبائل أفريقية متمردة، دخلت القبائل العربية في حرب طاحنة فيما بينها، ثم استعان البشير بقبائل أفريقية لمواجهة القبائل الأفريقية المتمردة. قصدت استعراض المراحل المختلفة لهذا الصراع (موجودة بتفاصيل كثيرة الكتاب) في البداية لإثبات أن المآسي التي عاناها سكان هذا الإقليم كان الجميع فيها ضحايا وجلادين في الوقت ذاته، وإن بدرجات متفاوتة.
مع تطور الأحداث في دارفور اعتباراً من مارس 2003، بدأ الاهتمام العالمي بهذه الأزمة، وبدأت دائرة الانتقادات الموجهة إلى الحكومة السودانية في الاتساع، حيث أعلن رئيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في 4 مارس 2004، أن هناك فظائع ترتكب في إقليم دارفور غرب السودان، وطالب الحكومة بفتح باب الحوار مع المتمردين على وجه السرعة، وإيقاف ميليشيات «الجنجويد» العربية.
ووصفت حملات إعلامية لم يسبق لها مثيل في الغرب الصراع بأنه «أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين» (وهو ادعاء غير حقيقي)، ومالت تلك الحملات إلى إدراج عرب دارفور – الذين بقي معظمهم على الحياد – ضمن ميليشيات «الجنجويد» التي دعمتها الحكومة، وهو ما أكدت دراسات غربية رصينة أنه غير دقيق، وأن نسبة العرب المشاركين في تلك الميليشيات صغيرة جداً، وأن دوائر غربية كانت تبالغ في قدرات الحكومة السودانية الهشة على كبح جماح ميليشيا الجنجويد. وكان لافتاً للنظر عدم تطرق الحملات الغربية إلى ممارسات المتمردين، فلم تكن الانتهاكات من جانب واحد في دارفور!
انطلاقاً من المعطيات السابقة عملت الجامعة العربية على تبرئة ساحة الثقافة العربية بشكل عام من أتون الصراع في دارفور. ونشطت الجامعة فى تقوية اتصالاتها وتنسيق جهدها مع الجهود الأفريقية وجهود الاتحاد الأفريقي بشكل خاص؛ بحيث لا يظهر أن الجهد العربي منفصلٌ عن صنوه الأفريقي، ويتأكد أمام المجتمع الدولي تطابق الموقفين العربي والأفريقي من تلك الأزمة التي أثارت نعرات عرقية وعنصرية زائفة. كان خوفي كبيراً من أن تطال خطوط التماس العربية – الأفريقية القارة الأفريقية بأكملها، وتكرس انقساماً إثنياً بين شمال القارة وجنوبها. وتفتح الباب أمام مطالب انفصالية بذرائع إثنية أو طائفية تهدد الأمن القومي السوداني والعربي والأفريقي.
– بعثة تقصي حقائق من الجامعة العربية
أمام كل تلك التطورات في دارفور كلفت السفير سمير حسني، مدير إدارة أفريقيا بالجامعة العربية، بالذهاب على رأس بعثة من الجامعة لتقصي الحقائق والوقوف على حقيقة الأوضاع في الإقليم، وكانت أول بعثة دولية من نوعها تذهب إلى دارفور، وشملت مهمتها زيارة السودان، من 29 أبريل إلى 15 مايو (أيار) 2004.
عقب عودتها قدمت بعثة تقصي الحقائق تقريراً من ثلاثة أجزاء: الأول مرتبط بلمحة عامة عن دارفور، والثاني ملاحظات البعثة، والثالث بتوصياتها. فيما يتعلق بملاحظات البعثة، فقد ثبت لها أن هناك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من كلا الطرفين المتصارعين في دارفور، غير أنها استبعدت تماماً وجود «إبادة جماعية» أو «تطهير عرقي» يمارس في الإقليم، وهو الموقف ذاته الذي عبر عنه في صراحة وشجاعة ألفا عمر كوناري، رئيس الاتحاد الأفريقي. وللتاريخ وللباحثين وللمواطن السوداني والعربي ولكل من يريد الوقوف على حقيقة ما جرى في دارفور سأذكر النص الحرفي لملاحظات البعثة (منشور بكامله في الكتاب).
كان للقليل مما تسرب من هذا التقرير دوي كبير، وبدأت حكومة السودان في الاحتجاج على الأمانة العامة للجامعة العربية، وقرر الرئيس البشير عدم حضور القمة العربية في تونس 2004 احتجاجاً على ذلك التقرير، مع تهديدات مختلفة متعلقة بإثارة دور الأمين العام ومدى تفويضه بالتصرف والأمر بالتحقيق في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
كما تحدث معي أيضاً بعض كبار المسؤولين في دول عربية، مبدين احترامهم للتطور الكبير في عمل الجامعة ودورها في مواجهة الأزمات العربية، مع النصح بعدم الذهاب بعيداً في ذلك، لما قد يترتب عليه من تفجير الجامعة من داخلها. كنت أعلم ذلك، ولكني كنت أرى – ولا أزال – أن دور الجامعة يجب أن يتطور جذرياً، وألا تقبل الجامعة التغطية على – أو تجاهل – مواقف شديدة السلبية مثل الوضع فى دارفور، ومن ثم أمرت:
> بتسريب أجزاء من التقرير، للضغط على الحكومة السودانية لاتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة تجنب السودان مخاطر الانقسام والتكالب الدولي عليه، عوضاً عن المناشدات التي أعرف مسبقاً أن البشير لن يستجيب لها.
> أن تتدخل الجامعة إيجابياً بالعمل على الوجود في دارفور، والتواصل مع مختلف الأطراف.
> إبقاء الوضع في دارفور على جدول أعمال النقاش المستمر مع الحكومة في الخرطوم.
> تحدثت شخصياً مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كي لا تظل متابعته مقتصرة على الحكومة وأفعالها، وإنما أيضاً على المنظمات المتمردة الأخرى الخارجة عن السيطرة والتي تعد إرهابية، إذ ترتكب الكثير من الجرائم ضد الإنسانية، وهو ما قبله المدعي العام ووعد بالقيام به (قام بذلك جزئياً).
والحقيقة أن هذه التحركات من جانب الجامعة العربية استطاعت أن تفتح أبواباً للنقاش ثم للتفاهم مع حكومة السودان على أهمية دور الجامعة والمجال الواسع لحركتها، وأن السلبيات التي تراها الحكومة السودانية في أداء الجامعة من وجهة نظرها تقابلها إيجابيات، ما سمح بحرية حركة من جانب الجامعة دعمته من جانبي بمزيد من التنسيق مع الاتحاد الأفريقي، ومزيد من الحركة على الأرض في دارفور، بادئاً بزيارة رسمية لها هي الأولى من جانب الأمين العام للجامعة العربية.
– باتفاق خاص مع «دار الشروق»
– جميع الحقوق محفوظة