منذ الأيام الأولى لوباء «كورونا المستجد»، كان من الواضح أن المرضى يستجيبون بشكل مختلف لعدوى الفيروس بدءاً من عدم ظهور أعراض على الإطلاق إلى الحاجة إلى دخول المستشفى. ولغاية الآن توفي ما لا يقل عن 4.7 مليون شخص بسبب المرض في جميع أنحاء العالم. وما زال العثور على تفسير لهذا التباين الملحوظ هو محور التركيز الرئيسي للبحوث، إذ كيف يستجيب الجهاز المناعي للعدوى الفيروسية التي تحدد إلى حد كبير مسار المرض: هل اعتماداً على العمر أو الجنس؟ أو على الحمل الفيروسي؟ أو الجينات أو متغيرات أخرى معروفة أو غير معروفة؟
– أول الدفاعات
يعد الإنترفيرون من أول دفاعات الجسم البشري. والإنترفيرون عبارة عن بروتينات ترتبط بمستقبلات سطحية معينة على الخلايا المعرضة للخطر وتحذرها من العامل المرضي مثل الفيروسات، وتقوم بتنظيم مسار للإشارات لمنع العوامل المرضية من التكاثر.
يقول عالم المناعة دارغ دافي من معهد باستور في باريس وآخرون في دراسة نُشرت بأغسطس (آب) 2021 بمجلة «Science» إن «كوفيد – 19» هو مرض من مرحلتين: الأولى هي عندما «يحاول الجهاز المناعي الاستجابة للفيروس وأن الأمر كله يتعلق باستجابة الإنترفيرون»، ثم ينتقل المرض إلى المرحلة الثانية عندما لا يؤدي الإنترفيرون وظيفته، ما يؤدي إلى نمو الفيروس وانتشاره. ويتابع دافي: «وإذا لم تتم السيطرة على العدوى الفيروسية فسوف يصاب المريض بالعدوى الثانوية المضاعفة التي تنتقل إلى جميع أنحاء الجسم، وهنا يأتي دور الأمراض المصاحبة».
تشير الدلائل التراكمية إلى أن المرضى الذين يعانون من خلل في إنتاج الإنترفيرون معرضون بشكل خاص لعدوى فيروس «سارس كوف 2». وعند استخدام القوارض والخلايا البشرية كنماذج، لاحظ فريق دافي أن الفيروس تسبب في انخفاض مستويات الإنترفيرون مقارنةً بالعدوى التنفسية الفيروسية الأخرى. وأظهرت عينات الدم المستخلصة بين 8 و12 يوماً بعد ظهور الأعراض من المرضى الذين يعانون من حالات «كوفيد – 19» الشديدة أو الحرجة، أظهرت إنتاجاً ونشاطاً منخفضاً لمجموعة معينة من الإنترفيرون المعروفة باسم النوع الأول. وقد اتبع كثير من الدراسات تلك النتائج الأولية، ما يؤكد أهمية هذه البروتينات في النتائج السريرية. ويتساءل العلماء هنا أيضاً عن سبب عدم امتلاك بعض المرضى ما يكفي منها لمحاربة العدوى بشكل فعال.
– المناعة والجينات
جهاز المناعة في الإنسان معقد ويتضمن كثيراً من الجينات، بما في ذلك تلك الجينات التي تشفر السيتوكينات المعروفة باسم الإنترفيرون (IFNs)، إذ يمكن للأشخاص الذين يفتقرون للإنترفيرونات المحددة أن يكونوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المعدية. وغالباً ما يقوم نظام الأجسام المضادة الذاتية (autoantibodies) بتثبيط استجابة الإنترفيرون لمنع الضرر الذي يسببه الالتهاب الناجم عن العوامل الممرضة.
وقد قام فريق بقيادة جان لوران كازانوفا اختصاصي المناعة والوراثة بجامعة روكفلر وجامعة باريس في بحث سبق نشره في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 في مجلة «Science»، بوضع تسلسل الجينومات للمرضى الذين يعانون من الالتهاب الرئوي بسبب «كوفيد – 19» الخطير ومقارنتها بالمرضى المصابين بالحالات الخفيفة أو التي لا تصاحبها أعراض، وذلك بحثاً عن متغيرات جينية نادرة كانت مرتبطة في دراسات سابقة بالنوع الأول من الاستجابة المناعية للإنترفيرون ضد فيروس الإنفلونزا.
وقد وجد الباحثون أن المجموعة المصابة بـ«كوفيد – 19» الحرجة كانت مليئة بهذه المتغيرات الجينية، مقارنة بالأشخاص الآخرين في مجموعة ضابطة. وقد أشارت هذه النتائج إلى أن الأجسام المضادة الذاتية التي تستهدف الإنترفيرون من النوع الأول المسمى α2- أو – ω في العدوى السابقة تزداد مع تقدم العمر، وقد تكون أكثر شيوعاً عند الرجال أكثر من النساء.
– أهمية التوقيت
يبدو أن الإنترفيرون يلعب دوراً إيجابياً فقط في الاستجابة المناعية لفيروس «سارس كوف 2» في وقت مبكر من مسار العدوى، حيث يقول دافي: عندما يتعلق الأمر باستجابة الإنترفيرون فإن التوقيت أمر بالغ الأهمية. ويضيف: «قد يكون ضاراً لاحقاً لأنه قد يثبط بعض الاستجابة المناعية المكتسبة أو قد يؤدي إلى حدوث التهاب معين. وبناء على ذلك، فإن إعطاء مضاد للفيروسات إلى المرضى في المستشفى لم يقلل من معدل الوفيات، كما جاء في تجربة سريرية بقيادة اتحاد التجارب التضامنية لمنظمة الصحة العالمية (World Health Organization Solidarity Trial Consortium) نشرت في مجلة «The New England Journal of Medicine» في 20 فبراير (شباط) 2020، بعد ذلك قامت دراسة أخرى بقيادة أكيكو إيواساكي اختصاصي المناعة في جامعة ييل بالولايات المتحدة ونشرت في «Nature medicine» في 5 مايو (أيار) 2021 تشير إلى أن عدم القدرة على تنظيم تسلسل مناسب للأحداث قد يؤدي إلى هذا النوع من التأخير. وفي نهاية المطاف، فإن أجهزة المناعة لدى المرضى الذين يعانون من الاستجابة المتأخرة تقوم بتوليد أجسام مضادة، لكن بعد فوات الأوان في هذه المرحلة لأن العدوى الفيروسية قد انتشرت بالفعل في كل أنحاء الجسم، وبالنسبة لهؤلاء المرضى فإن الفيروس لم يعد هو المسبب للمرض، بل بسبب استجابة المناعة المفرطة «hyperimmune response»، وفي هذا الوقت قد لا تكون الأجسام المضادة فعالة أو ليست لها علاقة بالعدوى.
– المناعة الذاتية
عندما ينقلب الجسم على نفسه: في بعض الأحيان لا يتمكن الجسم من التمييز بينه وبين الكائن الغريب، وينتهي به المطاف بإطلاق استجابة مناعية تجاه خلاياه وأنسجته، وهي ظاهرة تعرف باسم «المناعة الذاتية» (autoimmunity)، حيث يبدو أن مجموعة فرعية من الأجسام المضادة الذاتية التي لوحظت في مرضى «كوفيد – 19» قد تولدت بعد العدوى، إذ لم تكن هذه الأجسام موجودة في اليوم الذي وصل فيه المرضى إلى المستشفى، كما يوضح بول أوتز اختصاصي المناعة في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الذي قاد دراسة في البحث المنشور في 14 سبتمبر (أيلول) 2021 في مجلة «nature communications»، ولكن تم اكتشافها بعد أسبوع أو أكثر من وجودهم في المستشفى، ما يشير إلى أن الفيروس كان ينشط الجهاز المناعي بشكل مباشر لتوليد الأجسام المضادة.
ومن بين الأجسام المضادة الذاتية التي اكتشفها أوتز وزملاؤه بعض الأجسام التي توجد غالباً في أمراض الأنسجة الرابطة النادرة؛ مثل التصلب الجهازي (systemic sclerosis) والذئبة الحمراء (systemic lupus erythematosus) والتهاب العضلات (myositis). وقد أشارت الدراسات السابقة إلى أنه بمجرد تشخيص الإصابة بهذه الأمراض النادرة، فإن المرضى ستكون لديهم «الأجسام المضادة الذاتية» طوال حياتهم، كما يقول أوتز، لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا ينطبق أيضاً على مرضى «كوفيد – 19»، أم لا، إذا استمرت هذه الأجسام المضادة الذاتية، كما يقول، فإن ذلك يشير إلى أن المرضى الذين بدأوا في صنعها معرضون لخطر الإصابة بأمراض المناعة الذاتية المصاحبة، أو أن هذه البروتينات يمكن أن تلعب دوراً في كوفيد لفترة طويلة.
وبشكل عام، إذا كان الفيروس قادراً على تحفيز جهاز المناعة على تطوير الأجسام المضادة الذاتية، فهل يمكن للقاح ضده أن يفعل الشيء نفسه؟ هذا السؤال أجاب عنه بول أوتز عندما توصل بالتعاون مع زملائه إلى نتائج مطمئنة، هي أن الأجسام المضادة الذاتية لم تكن موجودة لدى الأشخاص بعد التطعيم، لكنها موجودة مع من كان مصاباً بالعدوى، وهي نتائج تؤكد أهمية وسلامة التطعيم بدلاً من المخاطرة بتطور أمراض المناعة الذاتية بعد الإصابة بالفيروس.