في تقدم كبير في مجال العلاج الجيني للأمراض النادرة والمدمرة، تشير الدلائل إلى أن العلاج الجيني أثار آمالاً نحو استراتيجيات علاج قابلة للتطبيق؛ بما لديه من قدرة على زيادة أو استعادة الوظيفة في الأنسجة أو الخلايا المصابة على مدى فترة طويلة من الزمن، وقد تُمَكِّنُ المريضَ من إدارة مرضه دون الحاجة إلى علاجات مستمرة.
– بدايات صعبة
وبعد انتكاسات عدة منذ بداياته قبل أكثر من 30 عاماً، بدأ العلاج الجيني في الجسم الحي في إحراز تقدم مهم، مع تطوير علاجات جديدة عبر مختلف المجالات العلاجية، من طب العيون إلى طب الأورام. وقد تعالج العلاجات الجينية الجديدة قريباً العشرات من الأمراض النادرة، إلا أن أسعارها، بملايين الدولارات، جعلتها بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين. وتتوقع إدارة الغذاء والدواء الأميركية، أنه بحلول عام 2025 ستوافق على 10 إلى 20 علاجاً خلوياً وجينياً كل عام.
أوردت الكاتبة العلمية راشيل برازيل في مقال لها نشر في عدد يناير (كانون الثاني) 2022 بـ«مجلة الصيدلة» (The Pharmaceutical Journal)، المجلد 308 – قصة تجسد البداية الدرامية للعلاج الجيني بوفاة جيسي جيلسينجر (Jesse Gelsinger) الذي كان يعاني من نقص الأورنيثين ترانسكارباميلاز (Ornithine TransCarbamylase Deficiency، OTCD)، وهو مرض وراثي مرتبط بالكروموسوم X ناتج من طفرة في جين OTC، ويؤدي إلى تراكم الأمونيا في الكبد والدم. وقد كان جيلسينجر المشارك الثامن عشر في التجارب السريرية للعلاج الجيني الذي يهدف إلى حقن نسخ عاملة من الجين OTC عن طريق ناقل فيروسي – ولكنه بعد أربعة أيام فقط من تلقيه العلاج، عانى من رد فعل مناعي كارثي وتوفي بسبب فشل متعدد الأعضاء. حدثت الوفاة في عام 1999، واهتز لها مجال العلاج الجيني، وأدى إلى تعليق تجارب العلاج الجيني لمدة عقد تقريباً.
– رحلة العشرين عاماً
الآن، وبعد عقدين من الزمن، بدأ العلاج الجيني في الجسم الحي يعود أخيراً، ففي السنوات الخمس الماضية فقط، اكتسب زخماً علمياً كبيراً، وفقاً للباحثة الصيدلانية آن بلاك (Anne Black)، المتخصصة في ضمان الجودة ورئيسة مجموعة عمل الصيدلة في المملكة المتحدة. وتقوم غالبية تجارب المنتجات الطبية العلاجية المتقدمة (ATMPs) حالياً بالتحقيق في العلاجات الجينية بوساطة ناقلات الفيروس، مع توزيع متساوٍ بين طرق توصيل الجينات في الجسم الحي وخارج الجسم الحي.
يستخدم العلاج الجيني أقساماً من الحمض النووي – عادة الجينات – لعلاج الأمراض، أو الوقاية منها، وهي الأمراض التي يسببها عدم وجود بروتين معين. في كثير من الحالات، يتضمن ذلك العلاج إضافة الحمض النووي الذي يحتوي على نسخة وظيفية من الجين المفقود أو المعيب المسؤول عن صنع البروتين.
وعلى عكس العلاجات خارج الجسم الحي – مثل العلاج بالخلايا التائية بمستقبل المستضد الخيمري (chimeric antigen receptor)، والذي يتضمن التعديل الوراثي للخلايا خارج الجسم والزرع اللاحق في المرضى – تتطلب العلاجات الجينية في الجسم الحي، ناقلاً (عادة يكون فيروساً) لنقل التسلسل الجيني المطلوب إلى خلايا المريض. وقد تم استخدام تقنية ناقلات الفيروس (viral vector technology) هذه في تطوير العديد من لقاحات «كوفيد – 19» الفعالة، بما في ذلك اللقاح الذي تصنعه أسترازينيكا – جامعة أكسفورد.
يستفيد كل من العلاج الجيني ولقاحات ناقلات الفيروس لـ«كوفيد – 19» من قدرة الفيروس على دخول الخلية. وقد تم تصميم الفيروس، في حالة لقاحات «كوفيد – 19» مثلاً، بالشفرة الجينية لبروتين السنبلة أو «S» من فيروس «سارس – كوفي – 2»، وهو قادر على اختطاف آلية صنع البروتين في الخلية لإنتاج هذا المستضد؛ لذلك يمكن للجسم أن يصنع استجابة مناعية ضده. وفقاً لموقع التاريخ العلمي (sciencehistory.org).
– علاجات جينية
وتطورت العلاجات الجينية في الجسم الحي. وكانت فكرة توصيل الجين عبر ناقلات فيروسية مُهندَسة، موجودة منذ أكثر من 30 عاماً. واستخدمت للمرة الأولى بنجاح في عام 1984، عندما وظف العلماء في مستشفى بوسطن للأطفال، ماساتشوستس، فيروساً لإدخال الجينات في الخلايا الجذعية المكونة للدم. ومن أوائل العلاجات الجينية في الجسم الحي ما يلي:
> تم تصميم أول علاج جيني في الجسم الحي (Glybera) – وتمت الموافقة عليه من قبل FDA ووكالة الأدوية الأوروبية (EMA) في عام 2012 – لعلاج نقص ليباز البروتين الدهني (lipoprotein lipase)، وهو مرض نادر يمنع انهيار الدهون؛ مما يؤدي إلى آلام في البطن والتهاب البنكرياس الشديد في بعض الأحيان وبتكلفة تزيد على 700000 جنيه إسترليني لكل علاج. وكان Glybera هو أغلى علاج في العالم في ذلك الوقت ولم يُعطَ إلا لمريض واحد في ألمانيا قبل أن يتم سحبه في عام 2017 بسبب فشله التجاري.
> في المملكة المتحدة، كان العلاج الجيني الأول الذي أصبح متاحاً هو (Luxturna)، وتمت الموافقة عليه في عام 2018 بتكلفة 613410 جنيهات إسترلينية لكل مريض. وهو الأول من بين عدد من العلاجات الجينية للعين قيد التطوير. يعمل Luxturna من خلال وقف تطور فقدان البصر الناتج من ضمور الشبكية الموروث، الناجم عن طفرات في الجين RPE65، والذي ينتج إنزيماً ضرورياً لخلايا الشبكية لتعمل.
> تلي ذلك الموافقة على العلاج الجيني (Zolgensma)، وهو حقنة لمرة واحدة لعلاج الرضع الذين يعانون من ضمور عضلي في العمود الفقري، والذي حصل على تصريح تسويق مشروط في مايو (أيار) 2020، بسعر 1.8 مليون جنيه إسترليني للجرعة الواحدة، وبذلك يحمل Zolgensma الآن وسام أغلى عقار في العالم. وفقاً لوكالة الأدوية الأوروبية (European Medicines Agency).
• من المتوقع الحصول على عدد من الموافقات على علاجات جينية قائمة على الفيروسات في الجسم الحي في السنوات القادمة، مع بحث يشمل عددا كبيرا من المجالات العلاجية، بما في ذلك طب العيون وأمراض الدم وأمراض التمثيل الغذائي، بالإضافة إلى الأورام والأمراض العصبية والعضلية وأمراض القلب والأوعية الدموية.
– ناقلات الفيروسات الغدّية
استخدمت العلاجات الجينية السابقة نواقل الفيروسات الغدية (adenovirus vectors)؛ نظراً لسهولة إنتاجها والمستويات العالية من التعبير الجيني، لكن الاهتمام تحول الآن إلى ناقلات الفيروسات المرتبطة بالغدية (Adeno – Associated Virus vectors (AAVs)). هذه الفيروسات الصغيرة (20 نانومتراً) غير قادرة على التكاثر بشكل مستقل دون وجود فيروسات أخرى؛ مما يعني أنها لا تستطيع وحدها أن تسبب المرض أو الاستجابات المناعية الشديدة، مما يجعلها أكثر أماناً في الاستخدام.
في العلاجات الجينية، تحتوي الفيروسات المهندسة على شريط تعبير (expression cassette) مضاف إلى الحمض النووي الخاص بها والذي يتكون من الجين العلاجي ومنطقة تحفيز خاصة بالأنسجة، والتي ستتحكم في أنواع الخلايا التي يتم التعبير عن الجين فيها. لا يلزم تقديم العديد من العلاجات الجينية إلا مرة واحدة وستستمر في العمل لفترات طويلة.
ومع ذلك، حتى مع النواقل المحسنة، فإن إيصال العلاج الجيني إلى بعض المواقع في الجسم أسهل من غيرها. وعلى سبيل المثال، فإن خلايا الشبكية تدوم طويلاً ولا تنقسم؛ لذلك بمجرد أن يتم إعطاؤها عن طريق الحقن، سيستمر العلاج في العمل لفترة طويلة؛ وهذا ما يفسر العدد الكبير من علاجات العيون قيد التطوير.
– مجالات واعدة
ومن أهم المجالات في العلاج الجيني ما يلي:
> أوضحت شارلوت أرنولد (Charlotte Arnold)، نائبة رئيس شركة علاجات جيروسكوب (Gyroscope Therapeutics)، ومقرها في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، أن علاج جيروسكوب يخضع حالياً للمرحلة الثانية من التجارب السريرية للعلاج الجيني المتجه لعلاج الضمور (GA) الذي يحدث كجزء من المرحلة المتأخرة من الضمور البقعي للعين المرتبط بالعمر (age – related macular degeneration (AMD)). لقد أبلغت عن بيانات إيجابية جيدة، حيث أدى العلاج، في غالبية المشاركين، إلى زيادة مستويات البروتين المفقود الذي يساعد على تنظيم الاستجابات المناعية في العين، وتتوقع الانتهاء من الدراسة في السنوات الثلاث المقبلة.
> شركة أخرى للعلاج الجيني، MeiraGTx، ستبدأ قريباً تجارب المرحلة الثالثة لعلاج التهاب الشبكية الصباغي (retinitis pigmentosa) المرتبط بـX، الناجم عن فقدان جين منظم التهاب الشبكية الصباغي. وهناك علاجات جينية أخرى لا تقتصر على العين.
> أوضحت ألكساندريا فوربس (Alexandria Forbes)، الرئيسة التنفيذية لشركة MeiraGTx، عن علاج جيني آخر لمرض باركنسون، يهدف لاستعادة الدوبامين، يعطى بجرعة موضعية صغيرة للنواة تحت المهاد (subthalamic nucleus)، التي تكون شديدة النشاط لدى المصابين بمرض باركنسون بسبب نقص الدوبامين. حتى الآن، أظهرت دراستان مكتملتان نتائج واعدة.
> هناك ابتكار مستقبلي آخر يمكن أن يوسع أنواع الأمراض التي يمكن علاجها، وهو الجمع بين العلاجات الجينية و«مفاتيح» الأدوية ذات الجزيئات الصغيرة («small molecule drug «switches).
> تقوم MeiraGTx بتطوير نظام يستخدم شرائح تركيبية من الحمض النووي الريبي RNA، تسمى المحولات الريبية (riboswitches)، بناءً على آلية تنظيمية شائعة في البكتيريا. إن إضافة تعليمات لهذه المفاتيح إلى شريط التعبير يعني أنه يمكن استخدام دواء جزيئي صغير للتحكم في تضفير الجين العلاجي. فقط مع وجود الجزيء الصغير سيتم صنع البروتين الصحيح؛ ويعمل كمفتاح تشغيل – إيقاف للجين العلاجي.
• يأمل فوربس أن تمكن هذه الطريقة من تطوير علاجات جينية للحالات التي تتطلب علاجاً بالهرمونات قصيرة العمر أو الببتيدات. على سبيل المثال، لعلاج داء السكري من النوع 2 والذي يحتاج حالياً إلى حقنة من قبل المرضى مرتين يومياً. فبدلاً من الاضطرار إلى هندسة تلك الببتيدات لجعلها غير طبيعية بزيادة عمر النصف لها يمكن إدخال الجين في الجسم، وتشغيلها باستخدام قرص واحد عند الحاجة.
تحديات العلاج الجيني
تقول العالمة أوتاغجريسنباخ (Uta Griesenbach)، التي تدير مجموعة أبحاث العلاج الجيني في جامعة إمبريال كوليدج بلندن، إن من المجزي للغاية أن نرى قصص النجاح القادمة وترخيص العلاجات الجديدة، رغم التحديات الكبيرة التي واجهت العلاج الجيني، ومنها:
• وفاة جيسي جيلسينجر في عام 1999، والتي فُسرت بأنها بسبب ردة فعل الجسم تجاه ناقل الفيروس الغدي، وأثرت في تقدم تجارب العلاج الجيني، وأدت إلى تعليقه لمدة عقد تقريباً.
• معاناة العديد من المرضى في مجموعات سابقة من آثار جانبية، بما في ذلك بعض حالات ردود فعل الكبد الحادة، والتي أثارت لاحقاً أسئلة من كلٍ العلماء وإدارة الغذاء والدواء.
• الطفرات الإدراجية (mutagenesis)، التي تحدث عندما يتكامل تسلسل الحمض النووي الذي يتم إدخاله داخل جينوم الكائن الحي المضيف؛ مما يؤدي إلى تحرير الجينات حول موقع الإدخال.
• كان العلاج الجيني للأطفال الذين يعانون من نقص المناعة المشترك الشديد ناجحاً بشكل لا يصدق… لكن نسبة صغيرة أصيبوا بسرطان الدم (leukaemia) الناجم عن الناقل؛ ما أثار القلق والحذر.
ووفقاً لعالم الأعصاب بجامعة شيفيلد الدكتور ميمون عزوز (Mimoun Azzouz)، رئيس مركز ابتكار وتصنيع العلاج الجيني بالجامعة (GTIMC) في مارس (آذار) 2021، فرغم كل التحديات فإن التحسينات الكبيرة للنواقل الفيروسية المستخدمة في العلاج الجيني جعلت العلاجات الجينية الحالية أكثر أماناً وفاعلية.
وأخيراً، فإن مستقبل العلاج الجيني يظل محيراً، فتحقيق ذلك يتطلب بنية تحتية جديدة، لا سيما في تصنيع ناقلات فيروسية. وقد أدت تقنية الناقل الفيروسي المطلوبة للقاح «كوفيد – 19» المعتمد على الفيروسات الغدية من أسترازينيكا – أكسفورد إلى التوسع في قدرات التصنيع؛ وافتتحت الشركة المُصنِعة (أكسفورد بيوميديكا) مجموعة إنتاج جديدة مقرها أكسفورد في عام 2020 لإنتاج النواقل الفيروسية المستخدمة في اللقاح.
يضيف الدكتور فوربس بأن فحوص تقييم جودة العلاج الجيني تعد واحدة من القضايا الرئيسية، حيث يجب أن تكون كل دفعة (batch) من الإنتاج ضمن المؤشرات المعتمدة وأن هذه الاختبارات معقدة من حيث التطوير والتأهيل والتحقق من صحتها.
وفي نهاية النطاق الإكلينيكي، هناك ثلاثة مراكز علاجية متقدمة في بريطانيا، على سبيل المثال، تعمل الآن داخل نطاق خدمة الصحة الوطنية (National Health Service – NHS) لتقديم العلاجات الجينية وغيرها من المنتجات الطبية العلاجية المتقدمة (ATMPs) الرائدة للمرضى، وفقاً للدكتور عزوز(Mimoun Azzouz)، رئيس مركز ابتكار وتصنيع العلاج الجيني بالجامعة الذي أشار، أيضاً، إلى ضرورة التأكد من تحسين الأمور كافة وجاهزيتها كالوحدات التي ستقدم هذه العلاجات المتخصصة، وإعداد المريض ومتابعته، وتدريب الصيادلة للتعامل مع هذه الحقن الفردية وطرق تخزينها. ولا نغفل بأن هذه العلاجات باهظة الثمن، وعليه نحتاج إلى اختيار مؤشرات للمرض الذي ليس لديه حالياً خيارات علاجية كافية.
وأخيراً، أبدى الدكتور ميمون عزوز تفاؤله وثقته من أننا في السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، سنرى علاجات رائعة لبعض الاضطرابات المدمرة، وستكون هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار في هذه المرافق. فالمستقبل يبدو، أخيراً، مشرقاً.
– استشاري طب المجتمع