إنه رابع أيام الحرب الروسية على أوكرانيا. عمدة العاصمة كييف يقدم تصريحاً مطمئناً للسكان: «الوضع تحت السيطرة، وقوات إنفاذ القانون تلاحق المخربين»، لكن صور القوات الروسية وهي تحتشد عند حدود المدينة، دفعت المهاجر العراقي مؤيد حكمت، للتفكير بحزم الحقائب. وكتب: «لم أكن أرغب بترك كييف (…) بغداد؟ لا أريد العودة إليها». حكمت، الذي أنهى دراسة الطب في «خاركيف» قبل ثلاث سنوات عاد إلى العاصمة الأوكرانية مع زوجته وطفليه وثلاث قطط، بحثاً عن حياة بديلة.
قبل ذلك بيومين، كانت السلطات العراقية تحاول التواصل مع العراقيين المقيمين في المدن الأوكرانية، تعرض عليهم تسهيل عودتهم عبر رحلات طارئة إلى البلاد. كثيرون فضلوا البقاء، وما أن اشتد القصف وازدحم الأوكرانيون في الأنفاق والملاجئ، انضم العشرات من العراقيين في طوابير راجلة نحو الحدود البولندية. يقول حكمت: «كانت لعبة حظ، في لحظة مرعبة».
وبحسب بيانات رسمية، فإن نحو 5500 عراقي، أغلبهم من الذين يدرسون في الجامعات، يقيمون في أوكرانيا حتى وقوع الحرب الروسية. وحين خصصت السفارة العراقية في كييف أرقاماً للحالات الطارئة، لم ترد سوى اتصالات معدودة.
في الجانب الأيسر من كييف، كان السكان يسمعون دوياً بعيداً للقصف، منحهم شعوراً مؤقتاً بالأمان. هناك كان حكمت يستأجر شقة صغيرة، ومن نافذتها كان يراقب السكون في المدينة.
«اشتد القصف الآن، سنرحل». كتب لنا حكمت رسالته عبر «واتساب» واختفى. إنه يوم الحرب الخامس، والعراقيون في أوكرانيا يتبادلون معلومات عن عراقي مفقود كان يحاول الوصول إلى الحدود البولندية. ورغم محاولات ناشطين وجمعيات طلابية نشر صورته واسمه (مصطفى) في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن خبره ضاع مع اشتداد الحرب.
عاد حكمت إلى «الواتساب» برسالة صوتية. الأنفاس المتسارعة تكسر عباراته. في الخلفية أصوات أوكرانيين كأنهم يركضون. قال: «أخذنا ما يسهل حمله، مع القطط الثلاث، ونزلنا نبحث عن وسيلة تنقلنا إلى محطة القطار (…) كان الناس يركضون في كل اتجاه، وتذكرت ما كان يحدث في بغداد بعد انفجار سيارة مفخخة». في الثواني الأخيرة من الرسالة الصوتية سمع دوي انفجار، هناك في كييف.
في 27 فبراير (شباط) الماضي، قال حرس الحدود البولندي إن نحو 200 ألف لاجئ معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن دخلوا البلاد، قادمين من أوكرانيا. وكان الفارون من القصف الروسي يتفصحون مواقع محلية تقدم نصائح بشأن الطريق السالك إلى منفذ بولندي. يبعث حكمت رسالة جديدة: «نحن بخير، وصلنا بلدة صغيرة جنوب غربي كييف، وسنتجه إلى الحدود».
وصل حكمت مقاطعة «هملنتسكي»، بعد رحلة شاقة بالقطار من كييف، «رأيت أشخاصاً يمنعون الأجانب من صعود الرحلة، لكن كثيرين غيرهم قدموا لنا المساعدة». في النهاية كان حكمت سعيداً بأن شخصاً ساعده في حمل القطط الثلاث إلى الرحلة، في اللحظة الأخيرة قبل إغلاق الأبواب، وهو الآن ينتظر مصيراً مجهولاً حين يصل الحدود.
في سابع أيام الحرب، قالت السلطات العراقية إن سفارتها في وارسو تلقت معلومات من السلطات البولندية تفيد بأن 223 عراقياً عبروا الحدود من أوكرانيا. تصل رسالة صوتية جديدة من حكمت، وبدا الجو العام في محيط المحادثة رائقاً، يقول حكمت: «أنا في بولندا (…) عبرنا بسلام».
وحسب وصفه، فإنه نجا من بلد لم يكن يريد النجاة منه، فالخروج من كييف بهذه الطريقة يفرض عليه العودة إلى بلده الأم. «العراق ليس خياراً للعيش، أفكر في الانتظار هنا، عالقاً في بولندا»، يختم حكمت رسائله الصوتية، ليمضي في انتظار أوكرانيا وحربها.