تتناثر "رواكيب"، وهي غرف بدائية يتم بناؤها من القش، على مدخل منطقة "قبقبة" الشهيرة في ولاية نهر النيل بالسودان، حيث يحتضن جوفها معدن الذهب بكثافة.. هذه المنطقة البسيطة التي تحولت من لا شئ إلى أرض الثراء الجاذب، تربعت على جغرافيا السودان لأهميتها باحتوائها على المعدن الأصفر.
تعد منطقة "قبقبة" شمال مدينة أبو حمد، إحدى أكبر مدن ولاية نهر النيل شمال السودان، المنطقة الأولى من حيث إنتاج الذهب عبر التعدين الأهلي في البلاد.
الكثير من القصص المذهلة، تتكون على امتداد المنطقة بين الباحثين عن المعدن، روايات وحكايات مختلفة عن أناس من شتى بقاع السودان.
مكافأة الأرض، أو الثراء السريع، يراودان الفتى أبو بكر
لم يكمل أوغست، ذو الـ14 عاماً، المعروف وسط أصدقائه بهذا اللقب، تعليمه وفضل الانتقال إلى أرض الذهب شمال السودان، في قبقبة، للعثور عما يسد فقره.
يروى أوغست لـ"العربية.نت" كيف بدأ في التفكير برحلة الثراء، التي يوصفها بالضرورية وفقاً لوضع أسرته الفقيرة واحتياجاتها شبه المعدومة غالبا.
نشأ أوغست، في حي فقير بأحد أحياء ضواحى الخرطوم، وكان يتوجه للمدرسة مهموما بيوم طويل دون طعام ومعدة فارغة يصبر عليها حتى عودته مع نهاية النهار إلى البيت المكون من غرفة واحدة واسعة شيدت بالطين وسقفها من بضعة فروع شجرة عليها بعض "الجوالات" القديمة.
قسمت الغرفة إلى ثلاثة أقسام تشمل مكانا لينام فيه هو ووالدته وأخواه الاثنان، وجزء صغير يستخدم مطبخا وآخر أقل مساحة هو الحمام.
المنزل الذي لا يشمل سورا أو حائطا، وحدودا فاصلة من الجيران، يطابق غالبية منازل الحي المتداخلة دون تخطيط.
ذات يوم، والرواية المستمرة لأوغست والتي تحكي معاناة عظيمة كابدها لانتشال أسرته من الفقر، كان في طريق عودته من المدرسة التي تبعد نحو كيلو متر ونصف، عندما قابل أشخاصا من الحي نفسه كانوا يحملون حقائب، بجانب أكياس ممتلئة بالمواد الغذائية لم ير في حياته الكثير منها.
كان الأشخاص من أبناء الحي، وحملوا الحقائب والأكياس من سيارة أوقفوها بمدخل الحي لغياب شوارع سببه سوء التخطيط وعشوائية تشييد المنازل.
"شفت أكياس.."
يضيف أوغست لـ"العربية.نت" : "شفت أكياس.. شفت ما هو علب طعام وبعض الأشياء التي كنت أشاهدها في تلفاز نادي الحي وجريت نحوهم فورا".
يقول إنه استفسرهم عن ماهية تلك الحقائب والأكياس، لمن؟ ومن هم، عندها ضحك أحدهم وقام بسؤاله عما إذا كان يريد منها شيئاً، أجابه: بنعم، ليقوم بوضع أحد الأكياس بحوزته على الأرض وإخراج شوكولاته وعلبة حليب ومنحها له.
تسلم أوغست الهدية الثمينة، لكن عقله ظل يطرق بإلحاح عن أسباب قدوم هؤلاء الأشخاص بتلك الهدايا ومن أين لهم المال وهم أبناء الحي الفقير، وأين هم ذاهبون.
وضع أوغست، الهدية على على حقيبته المهترئة، ثم لاحقا فضل نقلها لجيوبه لحفظها من السقوط عبر ثقوب الحقيبة، وأيضا حفظها من بعض الأولاد الذين ربما يقابلونه عند الوصول لمنزله.
دخل أوغست على والدته صائحا: "أمي أمي.. وجدت أشخاصا ومنحوني هدية". بلفتة سريعة عالجت والدته الموقف، مستفسرة من هم؟ أجابها أوغست بانه لا يعرفهم لكن يتذكر أنهم من شباب الحي.
بعد اقتسام الهدية مع أخويه، خرج أوغست عصر ذلك اليوم للعب كرة القدم مع أصدقائه، ورغم مهاراته العالية في اللعب، ظل عقله مشغولاً باولئك الأشخاص.
مع رفع مسجد الحي النداء لصلاة المغرب، تتوقف اللعبة ويخرج الصبية سريعا من الساحة مباشرة للمسجد لأداء الصلاة، فاللعب أثناء الآذان يوجب عليهم عقوبات فادحة من الكبار، بمنعهم من اللعب بالساحة ومصادرة الكرة نفسها وربما نيلهم علقة ساخنة مع محاضرة عن خطأ اللعب في وقت الصلاة وغضب الرب منهم.
بعد الصلاة، شاهد أوغست اثنين من الشباب، سأل رفيقه هل تعرف هؤلاء، إجابه صديقه نعم هما أبناء الحاج حسين محب جارنا كانا في منطقة الذهب في الشمال.
روى صديق أوغست أن الشباب ذهبوا للتنقيب عن الذهب ووجدوا كمية جيدة، وسأله: أوغست ألم تسمع بالقصة؟!".
كان أوغست في تلك اللحظات يفكر بعيدا في المنطقة وكيفية الذهاب هناك لإيجاد الكنز.
مضت أيام ونجح أوغست، في إقناع والدته بمرافقة أولئك الشباب، مضى إلى هناك واليوم، يكون قد بلغ سن الثامنة عشرة حسبما قال لـ"العربية.نت" في ختام قصته، لم يجد ما يشتهي من الكنز ويبحث عن أكثر مما وجده رغم بعض التقدم الذي أحرزه وساعد به أهله.
مع نهاية اليوم، يكون أوغست بين وعيه وعدمه، تعلم تناول جميع أنواع المخدرات، باتت تلك الأمنية حلم رحلة ثراء قبيحة.
كثير من الأطفال أو الشباب، قابلتهم "العربية.نت" في قبقبة، لديهم قصة، لكن العنوان الأبرز هو تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر البيئية والأمراض ومجاهل الصحراء والمخدرات، وغيرها مما ينطبق على العمل الخطير.
ثلاثة ملايين سوداني يعملون في التعدين الأهلي عن الذهب
تقول إحصائيات غير رسمية في السودان، إن نحو ثلاثة ملايين سوداني يعملون في التعدين الأهلي عن الذهب في البلاد. رحلات ومحاولات التنقيب والبحث، مختلفة الطرق في أماكن التعدين، هناك من لا يمتلك التكنلوجيا اللازمة والأدوات للعمل والبعض لديه.
في "قبقبة" شاهدت "العربية.نت" أعمالا بدائية للتنقيب، تعتمد في الأساس على الخبرة والروايات السابقة لبعض العاملين حول أماكن تواجد الذهب.
نحو ثلثي المعدنيين، وفق استطلاعات عشوائية قامت بها "العربية.نت" يعملون بأجر فيما يعرف بـ"الكرته" وهي حجارة تحمل بضع جرامات من الذهب يتم طحنها واستخراج الذهب منها، يمتلكها أشخاص ذو نفوذ ومعدات تقنية جيدة يقومون بإخراج الحجارة مما يعرف بـ(الأبيار) أو (البئر) تكون مملوكة لشخص "بوضع اليد".
يؤكد لـ"العربية.نت" أحد المسؤولين الحكوميين بقطاع الذهب، أن نسبة استفادة الدولة من التعدين الأهلي أكبر من التعدين الرسمي بواسطة الشركات التي تتلاعب في أرقام الاستخراج وتهرب الكثير.
تعاني مناطق التعدين الأهلي من إهمال تام، إذ لا توجد خدمات طوارئ طبية، ويتعرض كثير من المعدنيين لإصابات خطيرة أثناء العمل، أو حوادث بسبب المعدات لعدم وجود أدوات السلامة.
ويجزم المسؤول الذي طلب حجب إسمه، أن الدولة لا ترغم أحدا على الالتزام بقواعد السلامة، كما أنها لا تمتلك نقاط للدفاع المدني أو الطوارئ الصحية او اطقم طبية في تلك المناطق.
تقع في كثير من الأحيان، إصابات جراء لدغات العقارب والأفاعي وغيرها من الحيوانات المفترسة التي تجوب بعض مناطق التعدين الجبلية.
فقدت أيضا وفق إحصائيات غير رسمية حيوات كثيرة بسبب النزاعات أو السرقة أو الصدامات حول المناطق حيث يقع التعدين بين المعدنيين، أو بين المعدنيين وشركات نالت حقوق التعدين في تلك المناطق.
يعد السودان، وفق تصنيفات دولية وإقليمية، الدولة 15 من حيث إنتاج الذهب في العالم، والثالث في إفريقيا، لكن رغم ذلك لا تمتلك احتياطي من الذهب.
يهرب المعدن بصورة مستمرة للخارج، عبر شتى المنافذ البرية والجوية، كثير منها ضبط أثناء محاولات تهريه عبر مطار الخرطوم الدولي آخرها الأسبوع الماضي.