ليس سراً، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدفع الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب إردوغان إلى تجرع «كأس التطبيع». هذه الرغبة قديمة، قدم التدخل العسكري الروسي قبل سبع سنوات. الجديد فيها، أن الظروف باتت مواتية أكثر لانتقال الأسد وإردوغان من مباركة اللقاءات الأمنية في موسكو وطهران إلى التطبيع السياسي في أنقرة ودمشق.
«الوديعة» التي وضعها بوتين في جيب إردوغان لدى لقائهما في سوتشي قبل أيام: بدلاً من شن عملية عسكرية جديدة شمال سوريا، لماذا لا تقوم بالاتصال بالأسد وعقد جلسات تفاوضية لتلبية المطالب الأمنية التركية دون توغل عسكري؟ سبق وأن عقدت لقاءات بين مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك ونظيره التركي فيدان حقان. جلسات علنية في موسكو بداية 2020 وعقدت أخرى سرية مرات عدة لبحث تطوير اتفاق أضنة لعام 1998 إلى نسخة جديدة.
واقع الحال، أن تطوير اتفاق أضنة والتعاون الأمني ضد «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» الكردية، يتطلبان تطبيعاً سياسياً وفتح أقنية دبلوماسية. مفتاح بوتين، أن يتصل إردوغان مباشرة بالأسد بمباركة المرشد الإيراني علي خامنئي. لكن، كل رئيس من الرؤساء الثلاثة، يرى هذه الخطوة من زاوية مختلفة. هنا خسائر وهناك مخاطر. بوتين مستعد لهذه الخطوة لأنها تضعف «قوات سوريا الديمقراطية» الحليفة لأميركا وبريطانيا وفرنسا، الدول التي تحارب روسيا في أوكرانيا، وتعزز الدور الروسي في سوريا والإقليم بتحييد الدور التركي الداعم للمعارضة السورية وتعطي شرعية للنظام، وتطوي صفحة أساسية من سيرة العقد الأخير. كما أن خطوة كهذه تزيد فرص «صديقه اللدود» إردوغان و«شريكه العدائي» في ساحات كثيرة، للفوز بانتخابات منتصف العام المقبل.
هذه «الهدية» المترقبة من بوتين تتناقض كلياً مع رغبة الأسد الذي لا يريد فترة رئاسية جديدة لإردوغان المعروف بدعمه العسكري والسياسي للمعارضة السورية في العقد الأخير. كما أن التطبيع السياسي يشكل إحراجاً يجد الأسد صعوبة في أن يسوقه داخلياً ومع بعض حلفائه، طالما أن القوات التركية تحتل جيوباً كثيرة شمال سوريا بمساحة تزيد على ضعفي مساحة لبنان؛ خصوصاً أن إردوغان نفسه كثيراً ما كان بوصلة حملات إعلامية واتهامات وانتقادات في الخطاب الرسمي السوري.
طبعاً، لخامنئي، الشريك الثالث في مسار أستانة والسيطرة على الأرض السورية، حسابات معقدة. طهران تريد دعم الأسد وإضعاف حلفاء أميركا ولا تريد توغلات تركية، كما أنها تتفق مع دمشق وأنقرة في رفض الكيانات الكردية، بل إن الدول الثلاث نسقت ضد كردستان العراق في تسعينات القرن الماضي. لكن لإيران أيضاً، منافسات مع تركيا وروسيا في سوريا وغيرها.
إردوغان، من جهته، يريد تحييد ملف اللاجئين السوريين وسحبه من تداول المعارضة ويريد توجيه ضربة لأكراد سوريا قبل الانتخابات المقبلة. كما أنه لا يمانع بالتنسيق الأمني والسياسي مع دمشق لإبعادها عن الأكراد. لكنه يجد حرجاً في إجراء «انقلاب» في موقفه من الأسد ودمشق بعدما رفع سقف مواقفه ودعمه للمعارضة في السنوات الأخيرة.
أغلب الظن، أن بوتين يدفع العلاقة بين الأسد وإردوغان إلى مرحلة جديدة في العقد الأخير. المرحلة الأولى، كانت بعد الاحتجاجات بداية 2011 عندما جرت لقاءات للبحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية. المرحلة الثانية، هي العداء الأقصى لدى حديث الرئيس التركي عن «تنحي» الرئيس السوري. المرحلة الثالثة، عندما انتقل إردوغان، بعد التدخل الروسي، من «تغيير النظام» إلى عقد صفقات مع بوتين لتقطيع أوصال الكيان الكردي شمال سوريا ومد قواته ضمن جيوب سورية عديدة. المرحلة الجديدة، الرابعة، هي التعامل السياسي تحت مظلة بوتين، وتعاطي إردوغان مع الأسد رئيساً، وقبول الأسد بإردوغان محاوراً.
قد يشكل هذا صدمة أو مفاجأة للبعض. لكن لا بأس من التذكير بتأرجحات خط دمشق – أنقرة عبر العقود. حصلت انقلابات كثيرة في المثلث السوري – التركي – الكردي. في منتصف 1998، حشدت تركيا جيشها على الحدود وطالبت بطرد زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان. هذا ما حصل. تم توقيع اتفاق أضنة الذي أسس للتعاون الأمني ضد «الكردستاني». وعندما توفي الرئيس حافظ الأسد، دشنت مشاركة الرئيس أحمد نجدت سيزر بالجنازة، الانتقال إلى البعد السياسي وتكثيف التعاون ضد «الكردستاني» بتسلم قادة أتراك منه إلى أنقرة.
وبعد غزو أميركا للعراق في 2003، انتقلت العلاقات تدريجياً إلى مزيد من التعاون وتبادل عشرات الزيارات واللقاءات بين الأسد وإردوغان وصولاً إلى «الشراكة الاستراتيجية» و«إزالة الحدود» والاعتراف الضمني بضم لواء إسكندرون (هاتاي)، بل إن إردوغان كان بين قادة قلائل حافظوا على علاقة مع الأسد بعد العزلة التي فرضتها أميركا على دمشق بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 2005، كما أن إردوغان توسط بين الأسد ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت.
أغلب الظن، أن حديث إردوغان عن طلب بوتين منه الاتصال بالأسد ثم تسريب وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أول من أمس، بشأن «دردشة سريعة» مع نظيره السوري فيصل المقداد السنة الماضية وتريث دمشق بالإدانات، ليست إلا بدايات تمهيدية لتجرع الأسد وإردوغان «كأس التطبيع» من بوتين.