> ليس مُستغرباً لماذا حتى اليوم لا تُوجد إجابة بسيطة ومقنعة حول الوقت «الأفضل» لتناول أدوية علاج ارتفاع ضغط الدم؛ لأن وقائع التسلسل التاريخي لتعامل الأوساط الطبية مع ارتفاع ضغط الدم، مرت بمراحل متعددة، ولا يزال الأمر بحاجة إلى مزيد من البحث.
صحيح أن جهاز «قياس ضغط الدم الزئبقي Sphygmomanometer» ظهر في أوائل القرن العشرين، وتم بذلك تحديد وجود ضغط دم انقباضي وآخر انبساطي. ولكن الحقيقة أن ارتفاع ضغط الدم لم يكن آنذاك من المتفق عليه أن يُنظر إليه على أنه مرض يستدعي ضرورة المعالجة لخفضه؛ بل كان ثمة من يظن أن من الخطأ معالجته.
وعلى سبيل المثال، وفي الثلاثينات من القرن الماضي، كتب بروفسور بريطاني في الطب من جامعة ليفربول، مقالة علمية بعنوان «أهمية ارتفاع ضغط الدم»، ونشرت ضمن العدد الـ11، يوليو (تموز) 1931، من «المجلة الطبية البريطانية BMJ»، وقال فيها: «هناك خطر من أن المرضى قد يأخذون الاختلافات في ضغط الدم على محمل الجد. ويكمن الخطر الأكبر على الرجل المصاب بارتفاع ضغط الدم في اكتشافه؛ لأن أحد الحمقى سيحاول بالتأكيد خفضه!».
وفي عام 1937، رأى الدكتور بول دادلي وايت، طبيب القلب الأميركي، أن «ارتفاع ضغط الدم قد يكون آلية تعويضية مهمة لا ينبغي العبث بها، حتى لو كنا متأكدين من قدرتنا على التحكم فيه». وكان ارتفاع ضغط الدم إلى حدود 210 على 100 ملّيمتر زئبقي، يُصنف بأنه «ارتفاع حميد»! وأشار أهم كتب طب القلب الأميركية آنذاك، وهو كتاب «طب القلب» للدكتور تشارلز فريدبيرغ، في طبعة عام 1949، إلى أن «الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم الحميد لا يحتاجون إلى العلاج»!
ولكن بعد دخول خمسينات القرن الماضي، بدأت تظهر نتائج دراسات طبية تفيد بعكس هذا تماماً، وبأن تلك الارتفاعات ضارة على الجسم بشكل عميق. وتحديداً تزيد من الوفيات وأمراض القلب والأوعية الدموية.
وهذا ما ذكره باحثون من جامعة ولاية أوهايو في مقدمة مراجعتهم العلمية بعنوان «الجدول الزمني لتاريخ علاج ارتفاع ضغط الدم»، التي نُشرت في العدد الـ23، فبراير (شباط) 2016، من مجلة «تطورات طب القلب والأوعية الدموية Front. Cardiovasc. Med». وأضاف الباحثون الأميركيون أنه تم تقبّل ارتفاع ضغط الدم كـ«مرض» لأول مرة قبل 70 عاماً، ولكن عُدَّ آنذاك غير قابل للعلاج.
ومع اكتشاف أدوية إدرار البول Diuretics في أواخر الخمسينات الماضية (1958)، حصل أول تقدّم في العلاج الناجح لارتفاع ضغط الدم. ثم بعد ذلك خلال العقود التالية طُوّرت أدوية حاصرات بيتا (في أواخر الستينات)، ومثبطات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين (بداية الثمانينات)، وحاصرات قنوات الكالسيوم (بداية التسعينات)، وحاصرات مستقبلات الأنجيوتنسين (أواخر التسعينات)، لأدوية خافضة للضغط.
وكثير من التوصيات الطبية حول معالجة ارتفاع ضغط الدم لم تُثبتها دراسات طبية مؤثرة إلا من بعد فترة السبعينات الماضية. ذلك أنه بحلول عام 1971، أفادت دراسات «في إيهVA » المرحلة 1 عام 1967، والمرحلة 2 عام 1970، لأول مرة، بأن خفض ارتفاع ضغط الدم الانبساطي إلى ما دون 90 مليمتراً زئبقياً، يُقلل من معدلات حصول السكتة الدماغية وفشل القلب ومعدل الوفيات. ومن بعدهما، أصبح الهدف هو خفض ضغط الدم الانبساطي إلى أقل من 90 مليمتراً زئبقياً، كتوصية علاجية تقليدية.
وكانت دراسة «EWHPE» في عام 1986، هي أول دراسة رئيسية لارتفاع ضغط الدم لدى كبار السن حصرياً (فوق 60 سنة).
و«ارتفاع ضغط الدم الانقباضي المعزول Isolated Systolic HTN»؛ أي: دون وجود ارتفاع مُصاحب في ضغط الدم الانبساطي إلى ما فوق 160 مليمتراً زئبقياً، والذي يُصيب اليوم ثلثي مرضى ارتفاع ضغط الدم، لم يكن يُعد هدفاً للعلاج حتى عام 1991 (دراسة شيب SHEP).
ثم لأول مرة صدرت دراسة تُقارن بين 5 أنواع مختلفة من أدوية علاج ارتفاع ضغط الدم والدواء الوهمي Placebo، وذلك في عام 1993 (دراسة TOMHS). وبالتالي بدأ صدور التفاصيل في كيفية المعالجة بأنواع الأدوية المختلفة والأفضل منها، وكذلك بدأت المنافسة بين الشركات المُصنّعة للأدوية تلك.
كما كانت دراسة «MRC» في عام 1997 تبحث عن إجابة لسؤال: هل خفض تناول الملح لكبار السن يُخفّض ضغط الدم وتداعياته؟ وأول دراسة لإثبات فوائد علاج ارتفاع ضغط الدم لدى كبار السن جداً (فوق 80 سنة) كانت دراسة «HYVET» في عام 2008. وهذا الموضوع لا يزال محل بحث.
ولم يُحدَّد هدف خفض ارتفاع ضغط الدم الانقباضي بشكل مثالي إلى نحو 120 مليمتراً زئبقياً، للحصول على نتائج علاجية أفضل، إلا في وقت قريب جداً، مع ظهور نتائج دراسة «سبرينت SPRINT» في عام 2015.