في غبشة الصبح ، تهادت نعيمة ، صوب أرض البلد ، على رأسها تتهلل آنية الروث ، عودها الطري يتثنى و يتغنج ، بينما بين شفتين لوزيتين بسمة حلوة ، تعانق وجوه الجيران ، التي بكرت بالسروح بدوابها !
على كومة عالية ، صعدت بأنفاس مجهدة ، و حين كانت في المنتصف تقريبا ، غار التراب تحت قدميها ، فشهقت من هول المفاجأة ، و تخلت عما تحمل ، وهى تلتفت يمنة ويسرة ، كأنها تطلب النجدة ، بينما الصمت يحيط بها ، منسجما مع ضباب كثيف يغشي الغيطان ، والدنيا من حولها !
الساقان حتى الخصر غرقا ، أصبحت مثل فأر يقاوم مصيدة ، تخلع ساقا ، و ترتكز على أخرى .. كل مرة تفشل ، فتعاود الكرة ، توقفت و ركزت قليلا ، حين أحست بشيء غريب تحت قدميها ، له طراوة ولزوجة ، و ربما صلابة ما ، بدا لها كذلك ، فنشطت ذاكرتها ، و هي تقلب مئات اللقى و الكنوز التي وجدت ، و اكتشف أمرها كل من هب و دب .. هنا تحركت عيناها بشكل هستيري ، لتتأكد من خلو الطريق الزراعية ، و بقوة دفع الاكتشاف ، كانت خارج التراب ، تئن من الوجع و الإجهاد !
بين طراوة حلم ، حلقت كطائر خفيف ، تعانق نجوما و شهبا ، و تبنى ممالك ، وأفدنة لا عد لها و لا حصر ، يغدو عامر رجلها شيخا للحارة ، بل أميرا لها ، لا يقل عن أحمد أبو ناف ، رئيس الجمعية الزراعية ، بل يبزه في وسامته ، و فحولته ، التي أهدتها نني عينيها ” أحلاهم ” ، كم رفعت رأسها بين نساء الحارة ، و أصبحن لا ينادينها إلا بأم الأستاذة . : ” صبحى يا أم الأستاذة ” أخرجها صوت أبو صلاح جارهم ، من حلمها ، فلمت شعثها ، و بسرعة أتت ببعض عيدان من القش و الحطب ، ووضعتها في نفس الموضع ، و حملت آنيتها ، غادرت المكان ، وهى تلتفت بين خطوة و أخرى ، غير مصدقة ما حدث ، و ما تم !
كان منزويا كعملة ملها الناس ، لعدم جدواها ، يتحين وصول رفاقه ، مثل كل ليلة ، لتبدأ السهرة ، وتعلو الحناجر .. فجأة تخطفت رأسه طيور جارحة .. قلق يصرخ في أطرافه ، فيبقبق صدره كجمل في قيظ ، حين لقط هيكلها ، و ” أحلاهم ” تتعلق بها ، متجهة إلى أرض البلد ! لم يصدق عينيه ، فركهما ، و اعتدل ملسوعا ، ثم لف حول نفسه ، ليتأكد أن عينا هنا لا ترى مثله ، و داخله ثورة و هواجس تكفى لإغراق مدينة ! : “
بس يامه كان لازم نقول لأبويا .. الناس تقول علينا ايه دلوقتى ؟”. قطبت جبينها ، و لوت شفتيها : ” أبوك ما بتنبلش في بقه فوله ، والحاجات دي عاوزه الستر .. مش بيقولوا داري على شمعتك تقيد “. ثم جذبت ابنتها ، وهمست :” قربي أمال قبل ما حد يقطرنا ، يدوب على ما يخلصوا صلاة العشا.. يللا يابت أمال “. بكى عامر ، حين أبصرهما تعتليان الكومة ، و تبعدان التراب بجنون . بكى ، رفع وجها للسماء ، يحمل رجاءات ، و ندما عما سلف ، وما كان من لسانه و قلبه ! كان يدري ، هاهنا يرقد قتلى المدينة ، و كم رأى بعينيه أولاد الليل ، يجهزون على ضحاياهم ، و أين يضعون جثثهم ! في هذه ينام عدد كبير منهم .. تماسك عامر ، وفكر .. وبسرعة قبل أن تختل موازين الكون ، وتضيع البنت و الزوجة و الدار كلها في لحظة ! أصدر صوت عواء ، ضعيفا كان أول الأمر ، ثم رويدا رويدا حمَّله رعبا حد الافتراس ، مع طرق وخشخشة بعيدان الذرة .. نال منهما ، فأسرعتا بمغادرة المكان ، و لم يتوقف حتى اختفيتا تماما عن ناظريه ، فسجد لله شكرا ، ومسح وجهه بفرح كظيم !
حين كان يعتدل ليغادر ، كانت أشباح تحيط به من كل جانب!