يتطور فهم الأوساط الطبية لدور ارتفاع الدهون الثلاثية Triglycerides في احتمالات الإصابة بالأمراض، وخاصة في الشرايين القلبية والدماغية. ويتوالى تطور المعرفة الطبية لمدى جدوى ومدى حدود معالجة أي ارتفاعات فيها، وكذلك أنواع المعالجات السلوكية والدوائية والمتقدمة لاضطراباتها.
صحيح أن الدهون الثلاثية في الجسم أحد المواضيع الصحية المعقدة في تشعب الأسماء المرتبطة بتنقلاتها والتفاعلات الكيميائية – الحيوية ذات الصلة بتعاملات أعضاء الجسم معها، إلاّ أن ما يحتاجه الشخصُ المُصاب بارتفاع الدهون الثلاثية، أو الباحث عن الوقاية من ارتفاعها، هو إدراك عدد من الحقائق ذات الصلة بمصادر وجود الدهون الثلاثية في الجسم، وتأثيرات تنقلاتها فيما بين أعضاء الجسم عبر الدم، وأسباب ارتفاعها، ودور ذلك في الإصابة بالأمراض الشريانية، وكيفية معالجة ذلك الارتفاع.
– دهون ثلاثية متنقلة
هناك نوعان من الدهون الثلاثية في الطبيعة: نوع يحتوي على أحماض دهنية مشبعة Saturated FA، كما في الشحوم الحيوانية وزيت النخيل وجوز الهند (الزيوت الاستوائية). ونوع آخر يحتوي على أحماض دهنية غير مشبعة (Unsaturated FA أحادية وعديدة)، كما في عموم بقية الزيوت النباتية والمكسرات ودهون الحيوانات البحرية. والكوليسترول مادة شمعية لا توجد إلاّ في المنتجات الغذائية الحيوانية المصدر (برية وبحرية)، وتكون جميع المنتجات النباتية والزيوت النباتية خالية من الكوليسترول.
والدهون الثلاثية الموجودة في الجسم بالعموم لها مصدران رئيسيان، هما:
> ما يتناوله المرء من أنواع الدهون مع وجبات الطعام. ودهون الطعام عنصر غذائي مفيد، يستخدمها الجسم كمصدر للطاقة بالدرجة الأولى، إضافة إلى فوائد أخرى. وكما يحتاجها الجسم بكميات قليلة، فإنه أيضاً يحتاج النوعيات الصحية منها.
> ما ينتجه الكبد من دهون ثلاثية كوسيلة لتحويل سكريات الطعام الزائدة عن حاجة الجسم، إلى مركب كيميائي يحتوي على الطاقة ويُمكن خزنه كـ «مصدر للطاقة عند الحاجة» في خلايا أنسجة طبقات الشحوم والعضلات بالجسم.
وبشكل تقريبي، يعطي ١ غرام من السكريات أو من البروتينات حوالي ٤ كالوري، بينما يُعطي ١ غرام من الدهون حوالي ٨ كالوري. أي أن الطاقة التي توفرها الدهون الثلاثية ضعف كمية الطاقة التي توفرها البروتينات والكربوهيدرات.
ووجود الدهون الثلاثية في مناطق مختلفة في الجسم، مثل الدم أو الكبد أو الأمعاء أو العضلات أو الأنسجة الشحمية، هو بسبب تتابع حصول أربع عمليات كيميائية – حيوية للدهون الثلاثية في الجسم، وهي:
– عمليات «الامتصاص» في الأمعاء للدهون الموجودة في الطعام
– عمليات «الإنتاج» (في الكبد بالدرجة الأولى) لدهون ثلاثية جديدة
– عمليات «النقل» من «محطة» إلى أخرى فيما بين أعضاء الجسم باستخدام الدم كـ «خط» سير
– عمليات «التخزين» للدهون الثلاثية في الأنسجة الشحمية والعضلات
– خط النقل «طعام ـ كبد»
ولأن الأمعاء لا تستطيع امتصاص الدهون الثلاثية الموجودة في الطعام وهي بهيئتها المُركّبة، فإنه تحصل في الأمعاء، وتحت تأثير أنزيمات البنكرياس وسائل المرارة، عملية تسمى Lipolysis لتقسيم الدهون الثلاثية إلى الغلسرين والأحماض الدهنية. ثم يتم امتصاصهما مباشرة إلى داخل خلايا بطانة الأمعاء. ثم في خلايا بطانة الأمعاء، يتم إعادة تكوينهما كدهون ثلاثية.
ثم تحصل عمليات نقل للدهون الثلاثية في الرحلة الأولى لها، من الجهاز الهضمي إلى أعضاء الجسم ثم إلى الكبد، وذلك من خلال «السباحة» في سائل الدم. ولكن لأن الدهون الثلاثية والكوليسترول لا يذوبان في سائل الدم، فإنه يتم في خلايا الأمعاء التغلب على هذه المعضلة عبر تعبئة الدهون الثلاثية جنبا إلى جنب مع الكوليسترول في داخل «حاويات» تُسمى «الكيلومكرونات» Chylomicrons. وتخرج حاويات «الكيلومكرونات» من الأمعاء عن طريق الأوعية الليمفاوية، ثم تدخل إلى الأوعية الدموية الكبيرة بالقرب من القلب ويتم خلطها لأول مرة في الدم. ومع ضخ القلب للدم، تصل حاويات «الكيلومكرونات» (المحملة بالدهون الثلاثية والكوليسترول) إلى أرجاء الجسم المختلفة. وبحسب الحاجة للطاقة (وخاصة في العضلات والأنسجة الشحمية)، يتم استخلاص جزء من الدهون الثلاثية الموجودة في «الكيلومكرونات» لاستخدامها في إنتاج الطاقة.
وبعد هذا الاستخلاص الأولي لجزء من الدهون الثلاثية، يصبح اسم «الكيلومكرونات» هو «بقايا الكيلومكرونات» Chylomicrons Remnants، وهي الحاويات التي تعود بالكوليسترول (القادم بالأصل من الطعام) وبقية الدهون الثلاثية (القادمة بالأصل من الطعام أيضاً) لتصل إلى «محطة» الكبد.
– الكبد والدهون الثلاثية
ويُنظر طبياً إلى الكبد كمكان «محوري» في شأن الدهون الثلاثية والكوليسترول، لأن فيه تُجرى للدهون الثلاثية عمليتان رئيسيتان:
> الأولى: تتضمن عدة عمليات فرعية ذات الصلة بالتعامل مع كل من: الدهون الثلاثية والكوليسترول القادمين عبر خط النقل طعام – كبد، وسكريات الطعام القادمة مباشرة من الأمعاء.
> الثانية: تتعلق بإنتاج الكبد لكميات جديدة من الدهون الثلاثية، وكذلك الكوليسترول، أي غير كمياتهما القادمتين من الطعام.
وعليه فإن كمية الدهون الثلاثية الموجودة في الكبد لها مصدران: المصدر الأول «خارجي» Exogenous TG، أي الدهون الثلاثية القادمة من الطعام، والمصدر الثاني «داخلي» Endogenous TG، أي الدهون الثلاثية التي يُكوّنها الكبد إما من السكريات التي يتناولها المرء بكمية تفوق حاجة الجسم Carbohydrate – Induced HTG، أو من فيض تدفق الدهون الثلاثية من أنسجة الجسم إلى الكبد في حالات مرض السكري والسمنة وغيرهما.
وتخرج الدهون الثلاثية والكوليسترول من الكبد بتحميلها في حاوية جديدة تسمى «البروتينات الدهنية الخفيفة جداً» VLDL. أي الحاويات التي تنقل الدهون الثلاثية من الكبد إلى مخازنها الجديدة في الخلايا الدهنية Fat Cells بالأنسجة الشحمية Adipose Tissue. وإذا استمر المرء في تناول الدهون والسكريات في الطعام اليومي بما يفوق حاجة جسمه إليهما كمصدر للطاقة، فسيحصل ارتفاع في مستوى الدهون الثلاثية بالدم وسيستمر الجسم مضطراً في تخزين مزيد من الدهون الثلاثية في الخلايا الدهنية بالأنسجة الشحمية، ما يزيد بالتالي من كامل كتلة الشحوم المتراكمة في الجسم.
– الدهون الثلاثية والكوليسترول
وتختلف مستويات الدهون الثلاثية في سائل الدم خلال مراحل اليوم، وفق مدى نشاط حركة «النقل» لحاويات نقل الدهون الثلاثية فيما بين مناطق الجسم المختلفة. وهذا النشاط يعتمد بالدرجة الرئيسية على أوقات تناول الطعام، ولذا ثمة أوقات «ذروة» متعددة لمستويات الدهون الثلاثية في الدم، بتعدد فترات ما بعد تناول وجبات الطعام المحتوية على الدهون والسكريات.
وعندما تخرج حاويات «البروتينات الدهنية الخفيفة جداً» (المحملة بالدهون الثلاثية والكوليسترول) من الكبد إلى مجرى الدم، وتذهب إلى الأنسجة العضلية والشحمية وغيرها، يتم شيئا فشيئاً استخلاص الدهون الثلاثية منها إلى الحد الذي تصبح كمية الكوليسترول المُحمّلة في تلك الحاويات أعلى من كمية الدهون الثلاثية فيها، وعندها يصغر حجم هذه الحاويات بمقدار النصف، وتتغير مكونات غلافها الجداري، ويُصبح اسمها «البروتينات الدهنية المنخفضة الكثافة» LDL، أو ما يُسمى مجازاً «الكوليسترول المنخفض الكثافة». ومن جانب آخر، يرتبط ارتفاع معدلات وجود «البروتينات الدهنية الخفيفة جداً» (المحملة بالدهون الثلاثية والكوليسترول) في الدم بانخفاض كل من: معدلات «البروتينات الدهنية العالية الكثافة»، أو ما يُسمى مجازاً بـ«الكوليسترول الثقيل» HDL، وانخفاض كمية الكوليسترول فيها مقارنة بكمية الدهون الثلاثية فيها. ومعلوم أن انخفاض «الكوليسترول الثقيل» أمر ضار عبر زيادة احتمالات حصول مزيد من تراكم الكوليسترول في الشرايين القلبية وغيرها.
– علاقة وثيقة بين الدهون الثلاثية وأمراض الشرايين القلبية
> وفق نتائج الإحصائيات الطبية، فإن متوسط انتشار ارتفاع الدهون الثلاثية يبلغ حوالي ٢٥ في المائة عند البالغين في المجتمعات العالمية المختلفة، وذلك لأسباب جينية وبيئية وسلوكية وصحية. وفي حين أن الارتفاع «الشديد» في الدهون الثلاثية Severe HTG قليل نسبياً، فإن الارتفاع «الطفيف» و«المتوسط» في نسبة الدهون الثلاثية، يوازي بالعموم مدى انتشار مرض السكري والسمنة.
ومن ناحية السبب، ثمة نوع «أولي» لارتفاع الدهون الثلاثية Primary HTG، وهو الأقل انتشاراً، وذو صلة في الغالب بالعوامل الوراثية. ونوع «مُتقدّم» Secondary HTG، وهو الأعلى انتشاراً، ويرتبط باضطرابات مرضية وسلوكيات حياتية عدة، والتي منها: تناول وجبات طعام عالية المحتوى بطاقة الدهون والسكريات، والإفراط في تناول المشروبات الكحولية، والسمنة، وكسل الحركة البدنية، وزيادة مقاومة الجسم للأنسولين نتيجة تراكم الشحوم في الجسم، والإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري، وكسل الغدة الدرقية، وأمراض الكليتين، وخلال الفترة الثالثة من مراحل الحمل، ونتيجة لتناول عدد من أنواع الأدوية كمشتقات الكورتيزون ومجموعة أخرى من الأدوية.
وبشكل «مستقل» عن مدى نسبة الكوليسترول في الدم، يرتبط ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية بارتفاع خطورة الإصابة بأمراض الشرايين القلبية لدى الأشخاص الأصحاء منها ولدى الأشخاص الذين لديهم تلك الأمراض القلبية. أي أن هذا الارتباط هو ارتباط «مستقل» ولا علاقة له بأي اضطرابات أخرى في الكوليسترول. ما يجعل من ضبط نسبة الدهون الثلاثية بالدم هدفاً في «الوقاية الأولية» Primary Prevention و«الوقاية المتقدمة» Secondary Prevention من الإصابة بأمراض الشرايين القلبية أو تفاقمها.
ورغم أن العامل الرئيسي للتغيرات المرضية في الشرايين القلبية هو ارتفاع معدلات الكوليسترول، فإن ثمة عدة تفسيرات طبية لدور ارتفاع الدهون الثلاثية في نشوء وتطور حالات تصلب الشرايين القلبية وظهور التضيقات Atherosclerotic Plaquesفيها. ومنها: تغلغل النوعيات الصغيرة الحجم من تلك «البروتينات الدهنية الغنية بالدهون الثلاثية» داخل جدران الشرايين، وإثارتها لعمليات الالتهابات، وتنشيطها لعمليات التخثر الدموي، والتأثيرات السلبية لارتفاع الدهون الثلاثية على مستويات الكوليسترول الثقيل.
– خفض ارتفاع الدهون الثلاثية… سلوكيات حياتية وأدوية علاجية
> ارتفاع الدهون الثلاثية حالة يُمكن معالجتها بخفض مستويات الدهون الثلاثية إلى المعدلات الطبيعية. ووفق ما تشير إليه المصادر الطبية، ثمة ثلاث وسائل علاجية، وهي:
1. التعديل الصحي لسلوكيات نمط الحياة اليومية. وتتفق المصادر الطبية على أنه أهم وسيلة علاجية لارتفاع الدهون الثلاثية. ويشمل هذا التعديل:
– خفض الزيادة في وزن الجسم إلى المعدلات الطبيعية.
– ممارسة النشاط البدني المتوسط الشدة بشكل يومي لمدة ٢٠ – ٣٠ دقيقة.
– تقليل كمية الطاقة في الغذاء اليومي، عبر خفض تناول الأطعمة الغنية بالسكريات المكررة، وخفض إضافة السكريات المكررة إلى المشروبات الباردة أو الساخنة. والحرص على تناول سكريات الكربوهيدرات في المنتجات الغذائية ذات المؤشر السكري المنخفض Low Glycaemic Index Foods والغنية بالألياف، مثل الأطعمة المصنوعة باستخدام دقيق حبوب القمح الكاملة (Wholegrain Foods كالمخبوزات والمعكرونة) وحبوب الشوفان والبقوليات (العدس والفول والحمص) وغيرها.
– ضبط تناول الدهون المشبعة في الشحوم الحيوانية والزيوت الاستوائية النباتية والحلويات الدهنية ومشتقات الألبان الدهنية، عبر إزالة الشحوم الظاهرة عن قطع اللحم، وانتقاء الأنواع القليلة الدسم من مشتقات الألبان، واستخدام الزيوت النباتية الطبيعية (الغنية بالدهون غير المشبعة) كزيت الزيتون أو السمسم أو الذرة أو الكانولا أو غيره من أنواعها الطبيعية، والحرص كذلك على تناول الأسماك الدهنية، وإضافة قليل من بذور الكتان للطعام اليومي (بما يملأ ملعقة شاي).
– مراجعة الطبيب لأي أدوية قد تكون السبب وراء ارتفاع الدهون الثلاثية.
وتشير الدراسات الإكلينيكية إلى أن كلا من: ممارسة الرياضة البدنية وتقليل كمية طاقة الطعام، وخاصة من السكريات المكررة والدهون الحيوانية، يُمكن أن يُؤديا وحدهما إلى خفض بنسبة ٥٠ في المائة من نسبة الدهون الثلاثية في الدم.
2. فئة العلاجات الدوائية المعتمدة. جميع الأدوية المتوفرة لخفض الكوليسترول، مثل أدوية «مجموعة الستاتين» Statins، و«إزيتيميب» Ezetimibe، و«مثبطات بي سي إس كيه ٩» PCSK9 Inhibitors، والفايبريت Fibrates، وأدوية أحماض أوميغا – ٣ الدهنية Omega – 3 – Fatty Acids، والنياسين Niacin، جميعها لها تأثيرات إيجابية متفاوتة في درجة خفض مستويات الدهون الثلاثية بالدم. ولكن تبقى أدوية: «الفايبريت» و«الأحماض الدهنية أوميغا – ٣» و«النياسين»، ذات تأثير علاجي أعمق، وبمعدل يتراوح ما بين ٣٠ – ٤٥ في المائة، في خفض نسبة الدهون الثلاثية بالدم.
3. فئة العلاجات الجديدة تحت الاختبار. وهناك جهود علمية متواصلة لإنتاج أنواع متقدمة من فئة أدوية «الفايبريت»، ذات قدرات أعلى في خفض نسبة الدهون الثلاثية بالدم، وهي موجهة بالدرجة الأولى للاستخدام في مرضى السكري ومرضى شرايين القلب والحالات المرضية الأخرى. وكذلك تطوير أدوية من دهون أوميغا – ٣ تتميز باحتوائها على تركيزات أعلى لـ«الأحماض الدهنية أوميغا – ٣ طويلة السلسلة» Long – Chain Omega – 3 Fatty Acids التي ثبت أن لها تأثيرات أعلى في خفض الدهون الثلاثية.
وثمة جهود متزامنة لتطوير أدوية تثبط إنتاج أنواع من البروتينات الدهنية ذات الصلة بارتفاع الدهون الثلاثية، مثل مركبات «صميم البروتين الدهني من نوع سي ٣» Apo C – III، وأدوية هذا المسار تُعطى بالحقن تحت الجلد بشكل أسبوعي.
وأيضاً تُجرى تطبيقات إكلينيكية في مراكز البحث العلمي لاستخدام نوعية جديدة من «الأدوية الجينية» Gene Therapy ذات التأثير العالي في خفض الدهون الثلاثية، وذلك عبر إما استهداف أحد الجينات من نوع ANGPTL3. أو استهداف جينات أنزيم ليباز البروتين الدهني Lipoprotein Lipase Gene Therapy.