تعبر مجموعة «أشياء برسم الأكل» للقاص والفنان التشكيلي المرحوم أحمد القزلي، عن صوت المهمشين والهامشيين، عن المواطنين الغلابى في الحارات الفقيرة المهملة، وفي المخيمات البائسة، وفي الشوارع الجانبية التي لا يطرقها أي مسؤول، وفي الدخلات منتدى النساء وكبار السن، عن القطط التي أحبها القزلي وكانت رفيقه عمره، ومؤنسة وحشته.مجموعة «أشياء برسم الأكل»؛ ساخرة، مؤلمة، جارحة، صارخة، واخزة، لاطمة، كل قصة منها توجه صفعة مدوية، تبحث عن مستقر، ولا بد أن تهبط يومًا ما على خد يستحقها، خد اكتنز وسمن على حساب أفواه جائعة، وحقوق مهضومة، وكرامة مهدورة.
لا تحلق نصوص المجموعة في الأعالي، ولا تبحث عن تجريب أو فذلكلات لغوية، ولا تهتم بالبلاغة والمحسنات البديعية، بل هي نصوص عارية، مصقولة كسهام حادة، تصطاد قضايا وهمومًا اجتماعية وحياتية مما يعيشه الناس، ويقع في صلب حياتهم وضرورياتها، فهي نصوص يجد كل فيها ضالته؛ ابن الشارع وابن الحارة وست البيت والعامل والمشرد والعاطل عن العمل والمهموم والعليل والحزين، صحيح أنها لا تعطيهم حلًا، ولا تعدهم بالجنان، ولكنهم يشعرون أنها نسجت من دمائهم وأحزانهم، منهم وإليهم، تمشي بينهم، مثقلة بمعاناتهم، تمثلهم، صوتهم، صراخهم، وجعهم، أنينهم، وصدى أحلامهم البسيطة.
كان القزلي – رحمه الله- حين يقدم شاعرًا أو قاصًا لا يسرد سيرته الذاتية، ولا يتبع الطريقة التقليدية في التعريف، وكان يقول: «المبدع تُعرِّف به نصوصه»، وجاءت مجموعته «أشياء برسم الأكل» أصدق تعريف عنه، فهو يكتب كما يعيش وكما يتعامل مع الآخرين، فجاءت نصوصه صورًا حقيقية عنه، فعندما تقرأ له نصًا تبرز لك صورة له، تعبر عنه وعن أحواله وتصرفاته.
أول ما يلفت الانتباه في المجموعة غلافها، الذي احتوى لوحة تشكيلية تصور طنجرة ألمنيوم قديمة فوق «بابور» كاز، للفنان أسامة النجار، ومع أن القزلي فنان تشكيلي، إلا أن هذا لم يمنعه من الاستعانة بفنان صديق يشاركه ما توحي به الصورة وتختزله من بؤس وشقاء وحرمان وفقر.
تفتتح المجموعة بإهداء طريف لطيف: «إلى الطفلة إيلياء أحمد أبو سليم… الوحيدة التي عرفت القصد من وراء المجموعة فقامت بإلتهام المخطوط». وهذا الإهداء يضعنا في جو المجموعة وفضائها ونكهتها، ولعله من أصدق العتبات وأكثرها انسجامًا مع النص.
تضمنت المجموعة ثمانين نصًا قصصيًا، جاءت معظمها قصيرة جدًا ومكثفة، تصور حياة المعدمين والمحرومين الذين يطاردون لقمة العيش، لا تتجاوز أحلامهم سقف رؤوسهم، ليس عن قلة طموح أو كسل أو حماقة، بل لأنهم مقيدون بالحد الأدنى من الحياة، ومحجور عليهم النظر إلى الأعلى.
في خاتمة قصة «سهرة» نقرأ: «… في صبيحة اليوم التالي، كانت إحدى أمهات حفاة الحي تحاول إيقاظ أولادها من أجل اللحاق بأي لقمة خانتها أرجلها أثناء عملية ركضها المستمر، إلا أن أحدهم لم يستيقظ، لقد كانت سهرة الأمس طويلة ومسلية وغنية جدًا بذكر أسماء جميع أنواع الأحذية والتلذذ بتوصيف جماليات العيش معها». وهي صورة تقول الكثير، مما يؤلم ويجرح ويدمي.
قصة «عشرة» تصور حالة رجل يعمل نجارًا، مما تسبب ببتر بعض أصابعه، وأقنعه قريب أن يشاركه بمشروع تجاري، فوافق ليحمي ما تبقى من أصابعه، ولكن «هرب المسكين من تلك الشفرات المعدنية القاطعة ليمضي بقية حياته مشلولًا من أثر جلطة قوية تسببت فيها قطعة صغيرة من الورق، تطلق على نفسها اسم (شيك)». هذه الشيكات وأضرابها التي وقع ضحيتها نصف المواطنين على الأقل، بل وذهب القزلي نفسه ضحية لها، وفارق الحياة.
سلطة فنجان القهوة السادة، وما تضيعه من حقوق ودماء، وتنقذ المستهترين والمجرمين من العقوبات المستحقة، كانت موضوع قصة «قهوة» حيث تمت المسامحة بدم الرضيع الذي مات على يد سائق مستهتر، تختتم القصة «في المقبرة اتكأت زهور الحوض المجاور لأحد القبور على بتلتها اليسرى، وقالت لشقيقتها متساءلة: يا ترى لو كان هذا الفنجان مليئًا بالحليب بدل القهوة هل كانوا سيسامحون!!؟»
وفي صورة ساخرة ومعبرة عن أزمة السكن، وسوء المساكن، يقول في قصة «ازدحام»: «السندباد البحري يكره السردين، ويزعم أنه السبب الرئيسي لمرض (التعلُّب) عند السمك، ليس بيولوجيًا بمقدار ما هو رد فعل للهروب من أزمة السكن التي ضربت كل البحار والمحيطات».
ويستحضر القزلي تأبط شرًا حسدًا في قصة «ضيقة عين»، يقول: «أكره تأبط شرًا، القذر الصعلوك الحافي!! يغيظني، كلما جاع أشهر سيفًا وركض، أما أنا كلما جعت، جثوت على معدتي أمام المدير وتقدمت بطلب سلفة».
ولا ينسى الشهداء، ملح الأرض، ونور السماء، يقول في قصة «حب»: «قال لها: أول مرة أقترف جناية شهادة. قالت له الأرض الأم: زوجتك نفسي».
في قصة «عاطل» يموت الشيخ، فيشعر كلبه بالضياع بعد أن توقف عن ممارسة هواياته المفضلة من هز الذيل، وشمشمة أخبار الطرائد، وغيرها، وأصبح «أمام مستقبل مضطرب كلب بدون شيخ».
وفي تناص واخز مع قصة «الأميرة والضفدع» المشهورة، يصور تواضع الأحلام وبساطتها فيقول في قصة «أمنية»: «الضفدع الذي لم تقبله للآن أي أميرة، لم يطمح أبدًا بأي منصب أو إمارة، كان يتمنى فقط ألا يجف السيل وتصبح عيشته بعد هذا الجفاف مثل منظره».
ويقول في قصة «اكتشاف»: «لم يعرف كيف يواري سوءة أخيه.. خلع ملابسه». حتى الغراب غاب، وبقي لمصيره التعس.
اختتمت المجموعة بتسع شهادات لأصدقاء القزلي من الكتاب والمبدعين، وهم: جميل قدومي، محمد المشايخ، محمد صبيح، ناصر أبو توبة، أحمد أبو سليم، عبدالكريم حماده، أحمد أبو حليوه، وفاء بكر، خالد السبتي. وقد أشادوا بالقزلي وتجربته وإنسانيته نشاطه الكبير في الفعاليات الثقافية التي يحضرها، سواء كان مشاركًا أو مستمعًا. يقول عنه الناقد محمد المشايخ: «أحمد قزلي، ليس الديك الذي يوقظ الناس للصباح، بل الإنسان السوبرمان الذي يوقظهم ليتناولوا وجباتهم الفكرية أو الإبداعية أو الفنية». ويقول الشاعر والروائي أحمد أبو سليم: « أحمد القزلي بالنسبة لي كاتب ساخر يتقن الإضحاك عبر حقل شاسع من الألغام، عليك دائمًا أن تنتبه للتفاصيل لأنه يزرع فيها كثيرًا من الوجع المضحك.. أو الضحك الموجع».
وعلى الغلاف الأخير نقرأ قصيدة للقزلي يختتمها: «عندما اقتربت من النافذة… كان شاعرًا ما… قد طعن نفسه بقصيدة جديدة.»
وبعد.. رحم الله أحمد القزلي، الذي أبي قبل أن يموت إلا أن يحجز له مكانًا وسط جمهرة كتاب الأدب الساخر، بأسلوبه المختلف، وروحه المرحة، وقلبه الدافئ، وصداقته للجميع، ووضوحه وصراحته واختلافاته التي لم تفسد للود قضية.
قد يهمك أيضا:
مي التلمساني تعلن هليوبوليس أرض الأحلام وسعت لإبراز تاريخها بشكل مادي
مؤسسة الحي الثقافي تكشف عن ألفان و220 مشاركة في جائزة كتارا للرواية العربية