بعد 16 عاماً أمضاها في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، لم يستطع الأسير فراس أبو عليا الذي أُفرج عنه بداية شهر أبريل (نيسان) الحالي ممارسة حريته، بالشكل الذي يفهمه الفلسطينيون، واختصره الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بقوله: «حريتي فوضاي».
كمامة حجبت عنه بعضاً من هواء الحرية المنتظَر. وجد نفسه مضطراً للذهاب إلى المستشفى الحكومي في بيت لحم، لفحص احتمال إصابته بفيروس «كورونا المستجد»، قبل أن يصل إلى مخيمه الذي يحب، مخيم الدهيشة.
شاح أبو عليا للأحبة من بعيد، وألقى كلمة مقتضبة من على أحد الأسطح، ثم دخل إلى حجر بيتي؛ إجراء اتخذته السلطة الفلسطينية لحماية الأسرى والمجتمع من هذا الوباء الذي ظهر كعدو جديد للفلسطينيين الذين يعانون منذ عشرات السنين من عدو آخر.
قبل كل ذلك وبعده، لم يستطع أبو عليا ممارسة عادة أخرى محببة لدى الفلسطينيين، «عناق الأحبّة».
وقال أبو عليا لـ«الشرق الأوسط» إنه تعالى على رغباته الجامحة بغمر من يحب ويحبونه. وأضاف: «كنتُ بحاجة إلى هذا العناق بعد 16 عاماً من الغياب. لقد كانت مشاعري مختلطة. حين وصلتُ إلى هنا كنتُ مرتبكاً. كنت أود تقبيل البشر والشجر والحجر وكل شيء في طريقي. كنت بحاجة ماسّة لأغمر من أحب بعناق طويل وقبلات. كنتُ بحاجة ليغمروني أيضاً. أنا أكثر شخص كان بحاجة للأحضان الدافئة لكني كنتُ مصمماً على ألا يحدث. لقد تدربتُ على ذلك في عقلي. كان لدي قرار داخلي مسبق وأبلغتُه لأهلي وأحبتي قبل وصولهم. لا عناق ولا قبلات ولا أحضان».
ينطلق أبو عليا من مبدأ أنه جرّب الفراق طويلاً، ولا يريد لحلاوة اللقاء أن تكلفه فراقاً آخر جديداً.
وشرح بمشاعر فياضة: «خفتُ كثيراً من أن لحظة فرح قصيرة قد تكلفني فراقاً طويلاً، وأنا تعبتُ من فراق الأحبة».
بالنسبة له، بعد 16 عاماً من هذا الفراق كان حريصاً على عدم خسارة أحد، ولا خسارة الوقت أيضاً. كان يدرك أن أي احتمال بإصابته بـ«كوفيد - 19»، الذي أصاب أسرى آخرين، ونقله هذا الفيروس إلى أحد أفراد عائلته سيعني فراقاً أخرى بشكل أو بآخر، مؤقت أو دائم.
كان صعباً عليه استيعاب أنه بعد 16 عاماً في السجن سيسجن 14 يوماً في غرفته بسبب «كورونا».
لقد بدا الأمر مثل تجديد الحبس مرة أخرى، لكنه كان أمراً لا مناص منه.
وأوضح: «والدي كبير بالعمر. قلتُ له قبل أن أصل: يا حبيبي صحتك بالدنيا… بدي أفرح فيك أطول وقت، ما بدي أكون سبب بأذيتك بأي شكل».
وقال وهو يضحك: «واجهتُ مشاكل أكثر مع الأبناء، لكن أجبرتهم على الابتعاد. كانت مشاعري مختلطة وصعبة ومعقدة». إذ لدى فراس 3 من الأبناء، شابان في عمر 17 و18، وشقيقتهما الأكبر قليلاً في الجامعة، كانوا جميعاً يريدون مثل هذا العناق، لكنهم لم يحصلوا عليه سوى بعد أسبوعين. خلال أسبوعين جرب أبو عليا الفرق بين حبس إجباري وآخر اختياري، وكانت لياليهما طويلة جداً، مع فوارق أخرى جوهرية.
تجربة أبو عليا انسحبت على جميع الأسرى الذين أطلقت إسرائيل سراحهم منذ وصول الفيروس للمنطقة، وهي إجراءات نسفت كل «الفوضى» الإيجابية التي تعود عليها الفلسطينيون في استقبال أسراهم.
إذ عادة ما يبدأ استقبال الأسير بقُبَل وعناق وزفّة طويلة عبر مواكب سيارات لا تُحصى، قبل أن يصل إلى نقطة الاستقبال المركزية، وفيها يحمل الأصدقاء الأسير المفرَج عنه على الأكتاف، ثم يطلقون له النيران كجزء من الاحتفال وتحدي آسريه، قبل أن يخطب في الناس ويرحبون به، في عرس لا ينتهي.
عن ذلك، قال عامر ضراغمة أمين سر «حركة فتح» في مخيم الدهيشة: «مثل كثيرين، كنتُ بحاجة لأن أعانقه. لكن الالتزام كان عالياً، سواء من قِبَلنا أو من قِبَل الأسير». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «مشاعر الجميع كانت مرتبِكة، لكن المسؤولية العالية تحتّم ذلك».
كان ضراغمة يجهز لاستقبال حمزة الخمور، وهو أسير قضى 18 عاماً في السجون.
تم إبلاغ الطب الوقائي، وسمح فقط لموكب صغير من سيارات العائلة على ألا يتجاوز عدد راكبي كل سيارة ثلاثة أفراد، بالذهاب لاستقباله.
وشرح ضراغمة: «حين اتصلت بأبو عليا، كان سعيداً بأنه أنهى قبل ساعات قليلة فقط حجره، ودعاني إلى لقاء قريب. كان أيضاً فرغ من عناق مع أحد أصدقائه. وقال لي: (هذا أول عناق خارج العائلة)».
قبلها بساعات وصلت أبو عليا نتيجة الفحص الأخير، وكان سلبياً، فذهب فوراً نحو والده الذي انتظر هذه اللحظة 16 عاماً (فترة الأسر)، و14 يوماً (فترة حضانة فيروس «كورونا») ساعةً بساعةٍ.
وقال أبو عليا: «أيقظته من نومه واحتضنته طويلاً طويلاً دون كلام. كان الصمت أبلغ، وفعلتُ الأمر نفسه مع أولادي، كان عناقاً حتى مطلع الفجر، وكثير من الأحاديث والضحك والبكاء والصمت».
لقد كانت باختصار فرحة مزدوجة؛ فرحة اللقاء المباشر وفرحة النجاة من فيروس «كورونا»، لكنها بالنسبة لأبو عليا تظل فرحة منقوصة، لأنه أيضاً ترك خلفه أصدقاء العمر الذين شاركهم الضحك والبكاء والألم والأمل والزنازين الصغيرة.
يوجد في السجون الإسرائيلية اليوم 5000 أسير، بينهم 180 طفلاً و42 امرأة. قدر الفلسطينيون ألا يحصلوا على فرحة كاملة، وتضاعف هذا في مواجهة وباءين.