تختلف الأحداث الأليمة التي تقع في العالم من حروب، وكوارث طبيعية، إلى انتشار الأوبئة، وتجتمع في تأثيراتها على الأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات بأكملها. وقد يفقد البعض أحباءهم، أو قد ينفصلون عن أسرهم ومجتمعاتهم، أو قد يشهدون الموت والعنف أو الدمار بأعينهم. ولا يزال العالم يعيش موجة عارمة من الخوف الشديد والهلع جراء انتشار جائحة «كورونا» (كوفيد19). ورغم أن حدثاً كهذا يؤثر على جميع الأفراد، فإن لكل فرد نطاقاً واسعاً من ردود الفعل والمشاعر المختلفة، مثل الارتباك، والحيرة، والخوف، والقلق، والبلادة والانعزال.
إلى أي مدى يختلف الأشخاص في ردود الفعل تجاه جائحة «كوفيد19»؟ وكيف تؤثر عليهم وعلى أسرهم؟ وما تأثيرات الحجر الصحي المنزلي؛ على كبار السن بشكل خاص؟ وكيف نتجاوزها؟
تأثيرات الأزمة
تحدثت إلى «صحتك» الدكتورة ابتهاج عمر فلاتة، استشاري الطب النفسي مساعدة المشرف العام للخدمات الطبية بـ«مجمع إرادة والصحة النفسية» بجدة عضو المجلس العلمي بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وأوضحت أن ردود الفعل تجاه الأحداث تختلف من شخص لآخر؛ من بسيطة إلى قوية، ويعتمد ذلك على عوامل عدة؛ أهمها:
– أنماط الشخصية.
– الصحة الجسدية.
– طبيعة ومدى شدة الأحداث.
– تجربة الأشخاص مع أحداث أليمة سابقة.
– الخلفية الثقافية والعادات والتقاليد.
– وجود تاريخ مَرض نفسي للشخص أو أحد أفراد أسرته.
– الدعم الذي يحصل عليه الشخص في حياته من الآخرين.
وأضافت أن الخبراء النفسيين يشيرون إلى أن الإحساس بالضغوطات النفسية والعصبية يزداد بشكل طبيعي خلال الأزمات التي تواجه الأفراد والمجتمعات، لا سيما في وقت الحروب أو انتشار الأمراض الوبائية. وتزداد هذه الضغوطات بشكل خاص لدى الأشخاص الذين يعانون أمراضاً نفسية أو لديهم شخصيات مضطربة.
وهنا؛ تؤكد الدكتورة ابتهاج أن القلق المرتبط بالإصابة بمرض «كورونا» والعوامل المتعلقة به، يمكن أن يكون أسوأ من وبائية المرض نفسه. وعليه؛ فإن الاهتمام بالصحة النفسية في مثل هذه الفترات العصيبة غاية في الأهمية للحفاظ على الصحة والتقليل من المخاوف التي يمكن أن تؤثر على الصحة العامة للفرد والمجتمع.
الجائحة وردود الفعل
> ردود فعل تجاه الجائحة: نحن الممارسين الصحيين قد يتم استدعاؤنا بصفتنا عاملين في القطاع الصحي لتقديم المساعدة عند حدوث الكوارث أو الأوبئة، لذا ينبغي علينا معرفة الأساليب والمفاهيم الصحيحة وكيفية التعامل مع هذه الجائحة لتقديم أفضل المساعدات بطريقة تضمن السلامة للجميع.
إن استقرار الحالة النفسية للأشخاص يشكل أحد الأركان المهمة في مواجهة اجتياح فيروس «كورونا» العالم. ولكي نحقق أكبر قدر من التوازن والصمود النفسي، علينا أن نعرف كيفية استجابة أفراد المجتمع وردود الفعل منهم تجاه هذه الجائحة.
ومن أهم ردود الفعل لدى الأشخاص تجاه الجائحة:
– إطلاق الإشاعات والنكات.
– الإنكار وسيلةً للتقليل من أهمية الحدث.
– المبالغة في الإجراءات الاحترازية من قبل «المُوَسْوَسِين».
– الإصابة بالهلع والخوف واضطرابات النوم من قبل القلقين، مما يؤدي إلى التأثير على الصحة النفسية وبالتالي الصحة العامة.
– الإبداع في اكتشاف وسائل للتعامل مع الظروف الطارئة (الحجر، وصعوبات التواصل، ونقص الموارد) وإيجاد الحلول المناسبة لها.
وتضيف الدكتورة ابتهاج فلاتة أن الممارسين الصحيين يصابون، هم أيضاً كغيرهم، بتأثيرات نفسية كثيرة، خصوصاً الذين على علاقة مباشرة بالمرضى المشخصين بالمرض، يمكن أن تؤثر على أدائهم وإنتاجيتهم في العمل. ومن أهم التأثيرات: القلق على العائلة، والحزن والاكتئاب، والتعب من التعاطف، وانعدام المرونة النفسية، والصدمة غير المباشرة، والشعور بالذنب بسبب النجاة، والقلق حول اضطراب ما بعد الصدمة، وانخفاض المزاج وعدم وجود محفزات، والقلق حول التمييز بحق العاملين في مجال الرعاية الصحية.
وتعتمد هذه التأثيرات على عوامل عدة تختلف من شخص لآخر؛ منها: الصراع بين المخاوف على العائلة والالتزامات المهنية، والحزن المصاحب لفقدان بعض المرضى، والإحساس بالذنب تجاههم، ولوم النفس، والتعرض للصدمات الحالية أو السابقة، والتعرض للحجر الصحي، وعمل البعض في مهام لم تكن ضمن مجاله قبل الحدث.
> كيف نساعد الممارسين الصحيين على التقليل من الإصابة بهذه التأثيرات؟
تجيب الدكتورة ابتهاج فلاتة: «لا بد من أن نوفر لهم الدعم والاستشارة، وأن نشعرهم بالأمان والثقة، مع تذكيرهم بمسؤولياتهم المهنية، لتتم السيطرة على عواطفهم وتوجيه تفكيرهم نحو إنجاز المهام خلال الأزمات وطوال الأشهر التي تليها. كذلك يجب تثقيف الكادر الصحي وتدريبهم على كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات. وأهم مساعدة لهم هي تحسين المرونة النفسية، وهي قدرة المرء على التعافي واستعادة التوازن بعد المرور بظروف صادمة. ومن أفضل المحفزات التي تقي الممارس الصحي وتجنبه التعرض للاضطرابات النفسية، استشعاره ووعيه بأهمية ما يقوم به من أعمال تجاه المرضى والمحتاجين».
الحجر المنزلي للمسنين
> ما تأثيرات الحجر الصحي المنزلي على كبار السن؟
إن فرض الحجر الصحي المنزلي بوصفه إجراءً احترازياً من المرض أضاف كثيراً من الارتباك والحيرة بين أفراد الأسرة؛ صغارهم وكبارهم.
وكبار السن هم الفئة الغالية والمدللة في مجتمعاتنا الشرقية. وقد أثارت عملية تَرَصُّد فيروس «كورونا المستجدّ»، «كوفيد19»، لهم لإصابتهم، لأنهم الفئة الأضعف مناعة والأقل تحملاً عند الإصابة، الخوف والقلق عليهم والحيرة في كيفية إقناعهم بالجلوس في المنازل والانعزال تماماً وعدم تلقي الزيارات التي تعوّدوا عليها، خصوصاً خلال شهر رمضان بحسبان منازلهم مكاناً للتجمع والتراحم بين جميع أفراد العائلة.
وتجيب عن هذا السؤال الدكتورة نجوى أندجاني، اختصاصية الطب النفسي بمستشفى القوات المسلحة بجدة، موضحة أن أكثر الأعراض شيوعاً التي تصيب كبار السن في مثل هذه الظروف تتلخص في أعراض القلق الذي ينتابهم خوفاً من الإصابة بعدوى «كورونا» أو الموت؛ سواء على أنفسهم وعلى من حولهم، مما يعرضهم للأرق والحرمان من النوم والتفكير المتواصل، ويثير فيهم الغضب والعصبية، وزيادة الحديث عن الموت.
وقد يتعرضون للاكتئاب الذي يشمل الضيق والملل، واضطراب الشهية، والعزلة، وفقدان الاهتمام بما تعودوا القيام به يومياً، فتقل نشاطاتهم، كقراءة الصحف ومشاهدة التلفزيون، وعدم الاهتمام بشكلهم الخارجي، وقد يصل الأمر لرفض التواصل مع من حولهم والعزلة تماماً في غرفهم الخاصة.
وتضيف الدكتورة نجوى أندجاني أن «دور الأسرة تبرز أهميته هنا في التعامل مع هذا الموقف، وتخفيف التأثير النفسي السلبي للحجر الصحي على كبار السن. ويجب على أفراد الأسرة المقربين لكبير السنّ التحلي بالصبر، وتقديم الشرح الوافي بمعلومات صحيحة ومبسطة عن المرض وأسباب الحجر الصحي وأهميته، مع عدم الاستخفاف بآرائهم أو إخفاء أي معلومات عنهم».
وبالنسبة للزيارات المنقطعة عنهم، فيمكن تشجيعهم على استخدام التقنية في التواصل مع الأهل والأصدقاء عبر المكالمات المرئية بالفيديو ووسائل التواصل الأخرى التي تتيح لهم إمكانية رؤية أبنائهم وأحفادهم الصغار البعيدين عنهم، وأيضا مشاهدة ما يقومون به عادة في مثل هذه المناسبة، كزينة رمضان وأخبار صيام صغار العائلة، مما يترك لديهم أثراً طيباً ويخفف من شعورهم بالوحدة.
ومن الضروري أيضاً توفير جميع احتياجات كبار السن من طعام ومواد طبية وأجهزة تساعدهم على قضاء فترة الحجر في نوع من الراحة والطمأنينة. ومن جهة أخرى، فإن للحجر المنزلي جوانب إيجابية عديدة يمكن مشاركتهم بها، كإمكانية ممارسة الهوايات المنزلية مثل الزراعة والطبخ والرسم (وتوفير المواد اللازمة لها) وكذلك تعليمهم عبر القنوات التعليمية لإتقان تلك المهارات، وسؤالهم والاهتمام بإنجازاتهم بعد الممارسة.
أما إذا لوحظ أن أعراض القلق والاكتئاب أصبحت متواصلة وأضحت ظاهرة مَرضية، فيُفضل التواصل مع مختص لمساعدتهم، كما يمكن الاستفادة من الخدمات الطبية المقدمة في تطبيقات الجوال؛ سواء لتلقي الاستشارة ولتوفير الوصفات الطبية، مما سيخفف قلقهم وتوترهم من عدم توفر المستشفيات والصيدليات لظروف الحجر الصحي.
خطوات لتجاوز القلق
> كيف نتجاوز القلق والتوتر المصاحبَين للحجر الصحي المنزلي؟
تجيب عن السؤال الاختصاصية النفسية مشاعل باحطاب، من مستشفى القوات المسلحة بجدة: «من الطبيعي أن يشعر الفرد بالقلق والتوتر بسبب الجهل وغياب اليقين بما سيحدث على المديين القصير والبعيد؛ حيث يقول جون فورسيث، أستاذ علم النفس بجامعة ألباني في نيويورك: (يجد البشر الراحة والأمان في إمكانية التنبؤ بروتين الحياة اليومية). ولتخطي الأزمة بنجاح، فمن المهم معرفة كيفية التعامل مع هذه المشاعر والأفكار. المفتاح الرئيسي للتعامل مع هذه الأزمة هو التركيز على ما يمكن التحكم فيه. وما دام فيروس (كورونا) وكل ما يتعلق به من أمور لا يزال بعضها مجهولاً، فإنه بالتالي يشكل مصدراً طبيعياً للقلق والتفكير. إن التركيز في عدم إمكانية التحكم فيه لحد الآن سيضع كثيرين في دائرة من القلق غير المنتهي.
ومن الحلول أن نختار ونركز على: ما يمكنك التحكم به هنا والآن، وبما يمكن أن يفيدنا فعلاً، وبما يتوافق مع ما هو مهم بالنسبة لنا:
> خطوات عملية لتخفيف القلق: عليك منذ البداية التقبل والالتزام:
– أولاً: أن تلاحظ كل ما تشعر به وتفكر فيه. اعترف بوجود هذه الأفكار والمشاعر. أخبر نفسك حقيقة أنها مشاعر طبيعية وعادية؛ إذ إن الاعتراف بها سيجعلك تشعر بالتعاطف تجاه نفسك وبنوع من الحرية والراحة، وأيضاً سيجعلك قادراً على التعامل معها. وفي المقابل، فإن تجنبك هذه المشاعر قد يزيد من شدتها.
– ثانياً: إعادة توجيه انتباهك إلى اللحظة الحالية، ولذلك تستطيع أن تخرج من دائرة القلق فقط عندما تختار، وعندما تزاحمك الأفكار والمشاعر (وهذه طبيعة العقل)، سوف تعيد انتباهك باستمرار لما يدور هنا والآن (وجه انتباهك لما حولك أو لنشاط تقوم به)، ومن المهم أن يكون ذلك من غير إطلاق أحكام، أو تحليل للأمور، وهذا ما يسمى (اليقظة الذهنية).
ومن أمثلة اليقظة الذهنية: التنفس العميق، وتركيز الانتباه على التنفس، وتركيز الانتباه على الإحساس بالجسد، والانتباه للحواس الخمس فيما تراه، وتسمعه وتلمسه وتتذوقه وما تشم رائحته، أو بكل بساطة أن تركز على أي نشاط تمارسه في روتينك اليومي.
ملاحظة: ستكون لديك القدرة على أن تقرر التركيز على ما يمكنك التحكم به، فقط إذا قمت بالاعتراف لنفسك بوجود الأفكار والمشاعر المؤلمة.
– ثالثاً: اتخاذ قرار بفعل ما يهمك حتى رغم وجود أفكار ومشاعر مؤلمة، وسيمكنك أن تقوم بفعل ما يهمك عندما تقوم بالخطوة السابقة، كما يمكنك أن تنقل انتباهك مما لا يمكنك التحكم به، إلى ما هو بين يديك.
ولمعرفة ما يهمك؛ جرب أن تسأل نفسك باستمرار، أي نوع من الأشخاص تريد أن تكون خلال هذه الأزمة؟ ما الذي تستطيع أن تفعله لتوفر الدعم لنفسك؟ كالتواصل مع الأصدقاء أو ممارسة أنشطة محببة لك… وما إلى ذلك. أيضا اسأل نفسك ما الذي تستطيع فعله لغيرك – مهما كان صغيراً – قد يساعد ذلك في التخفيف عنهم؟ كما لا بد من التركيز على أهمية البحث عن توصيات الجهات الرسمية في اتباع إجراءات السلامة ضد فيروس «كورونا»، والعمل بها».
أيا كانت الإجابة التي تجدها، التزم بأن تختار بأن تقوم باتخاذ الفعل رغم أي شيء.
وأخيراً، فإننا جميعنا معرضون للقلق الذي يجتاحنا من كل جانب، ونحن نتابع الأخبار، ونحن نفكر في صحتنا وصحة الآخرين. ونؤكد على أن القلق بمستوى خفيف طوال الوقت مقبول ويعدّ استجابة طبيعية للوضع الذي نعيشه.
فلْنتفاءل، ولْنتسامح مع النفس والآخرين، ولْنعش علاقات اجتماعية إيجابية، ولْنعش كل لحظة بلحظتها، ونحصل على المعلومات من مصدر موثوق، ونحارب الإشاعات، ونمارس الاسترخاء، وننظر إلى الجانب المشرق من الحياة.
– استشاري طب المجتمع