توجد داخل كل خلية من خلايا كل كائن حي خريطة تفصيلية لكل صفاته، يرثها منه أبناؤه وهي مشابهة للكَاتالوغ (أي المنشور المصوّر) الذي يصاحب الأجهزة، ويتضمّن عادة معلومات وصفيّة لهذا المنتج، وآلية تركيبه والأعطال التي يتعرض لها، وكيفية صيانته، وإصلاحه.
يشبه هذا الكتالوغ أيضا برمجيات الحاسوب، التي تشغل الأجهزة، وتحافظ على ثباتها واتزانها، وتأدية وظائفها بدقة متناهية… إنه اللولب المزدوج المتمثل في الحمض النووي «دي إن إيه DNA» الذي يحمل هذه الخريطة، ويحمل فيما يحمل العديد من أسرار الحياة.
اللولب المزدوج
ما هي قصة اللولب المزدوج؟ استضفنا في ملحق «صحتك» أحد المتخصصين في مجال التقنية الحيوية، الدكتور طارق قابيل أستاذ التقنية الحيوية المساعد بكليتي العلوم والآداب – جامعة الباحة بالمملكة العربية السعودية، والأستاذ بكلية العلوم – جامعة القاهرة بمصر – ليحكي لنا قصة اللولب المزدوج وشيئا من أسراره.
أوضح دكتور قابيل أن أحداث هذه القصة تبدأ من عام 1928 عندما بدأ التعرف لأول مرة على أن الحمض النووي هو مادة الوراثة، بعد تجربة شهيرة أجراها العالم «غريفيث Frederick Griffith»، وأشار فيها إلى أن هناك «مادة» يمكن أن تغير التركيب الوراثي للبكتريا. ثم تم التحقق من أن هذه المادة هي الحمض النووي عام 1944 بواسطة عالمين أميركيين، هما «آفري Oswald Avery» و«مكلويد Colin McLeod». وأجريت تجارب أخرى عديدة بعد ذلك، أثبتت جميعها أن الحمض النووي الدي أوكسي ريبوزي «DNA» هو الحمض الذي يحمل الصفات الوراثية.
وفي عام 1953 تم اكتشاف التركيب الجزيئي للحمض النووي؛ حيث وضع العالمان «جيمس واطسون James Watson» و«فرانسيس كريك Francis Crick» نموذجاً للحمض النووي يسمى بـ«اللولب المزدوج»، ونشر نبأ الاكتشاف في مقال علمي، عرف بأنه «رسالة» باسم «واطسون وكريك» في مجلة «نتشر» العلمية في عدد يوم 25 أبريل (نيسان) 1953. ومن الطريف أنهما لم يجريا أي تجربة عملية، ولم يحملا أنبوبة اختبار واحدة للتوصل لهذا الكشف المثير، ولكنهما وضعا نموذجهما استناداً إلى البيانات التي وفرها باحثون في مختبرات جامعة «كمبردج» على مدى 3 سنوات.
كشفت هذه البيانات النقاب عن التركيب الجزيئي للحمض النووي، وبنى «واطسون» و«كريك» نموذجهما للحمض النووي بعد أسبوعين فقط من الحصول على الصور. وباكتشافهما لحقيقة أن جزيئات الحمض النووي تكون تركيبا لولبيا مزدوجا، يشابه السلم الملتوي، تبين كيف يمكن للحمض النووي أن ينسخ نفسه.
وبعد عامين من اكتشاف الـحمض النووي «دي إن إيه» تحقق «آرثر كورنبرغ Arthur Kornberg» من إمكانات نسخ الحمض النووي لنفسه. وفي عام 1960 تمكن مارشال «نيرنبرغ Marshall Nurnberg» و«هار خولانا Har Khulana» و«سيفيرو أكوا Severo Aqua» من التحقق من أن 3 أحرف من الأحرف الأربعة للحمض النووي تشكل رمزاً لأحماض أمينية.
وفي السبعينيات، تمكن العلماء من التعرف على حروف الحمض النووي، ثم تمكنوا من قطع ولصق أجزاء من الحمض النووي، ثم تمكنوا من نسخه بعد ذلك.
وفي عام 1983 استطاع العالم الأميركي «كاري موليس Carrie Molise» أن يطور طريقة لاستنساخ آلاف النسخ من الحمض النووي؛ وهو ما وضع أسس الهندسة الوراثية الحديثة. ثم توجت أبحاث العلماء في نهاية القرن العشرين بدراسة تتابعات الجينوم (كامل المحتوى الوراثي للكائن الحي)، وفي منتصف عام 2000 تم فك ترميز جينوم الإنسان.
تم الانتهاء من النسخة الأولية من مشروع الجينوم البشري في أوائل عام 2001. وصحب ذلك ضجة إعلامية كبيرة. ومنذ ذلك التاريخ بدأ التنافس والسباق المحموم للمراكز العلمية وشركات التقنية الحيوية لاستخدام مخرجات الجينوم البشري لتشخيص الأمراض الوراثية والبحث عن عقاقير تعمل على مستوى الجينات وتركيبها.
وبحلول شهر سبتمبر (أيلول) عام 2007. تم التعرف على التسلسل الكامل لجينوم 1879 فيروساً و577 نوعاً من البكتيريا و23 نوعاً من الكائنات حقيقية النواة. وفي نفس العام 2007 تم الإعلان عن انتهاء مشروع الجينوم البشري.
خصائص مذهلة
ويواصل أستاذ التقنية الحيوية الدكتور طارق قابيل حديثه بأن جزيء الحمض النووي «دي إن إيه» «DNA» يتألف من شريطين يلتفان حول بعضهما باتجاه عقارب الساعة، حول محور واحد؛ أحدهما يتجه إلى أعلى والآخر إلى أسفل، على هيئة سلم حلزوني مزدوج.
كل شريط عبارة عن خيط من وحدات كيميائية تسمى النيوكلتيدات. والنيوكلتيدات من أربعة أصناف لا تختلف إلا في نوع القاعدة النيتروجينية. وهذه القواعد النيتروجينية هي: «الأدنين Adenin»، و«الثايمين Thymine»، و«السيتوسين Cytocine»، و«الغوانين Guanin». وتشكل هذه القواعد أزواجا؛ فقاعدة «الأدنين»، ترتبط دائما بـ«الثايمين»، بينما ترتبط «الغوانين» بـ«السيتوسين».
تتوزع القواعد بالترتيب على اللولب المزدوج؛ بحيث يوجد 10 أزواج فقط على كل دورة لولب مزدوج. وتشكل القواعد كلمات وجملا وراثية تحفظ المعلومات الوراثية للكائن الحي من الإنبات إلى الممات، على هيئة جينات، وتتطابق كل مجموعة مؤلفة من ثلاثة أحرف مع حامض أميني واحد.
كشفت الدراسات الحديثة أن للولب المزدوج خصائص مذهلة، لا سيما في العلاقة بين التركيب والوظيفة، وإذا تم تمديد جديلة الحمض النووي «دي إن إيه» الموجودة في أي خلية من خلايا الإنسان فسيبلغ طولها مترين. وإذا وضعت جميع جزيئات الحمض النووي للجسم البشري سوية من نهايات أطرافها؛ فإنها قد تصل إلى الشمس وترتد أكثر من 600 مرة.
ثورة طبية واعدة
• تشابه البشر. أكدت الدراسات أن البشر متشابهون في حوالي 99.9 في المائة على مستوى الحمض النووي «دي إن إيه». ورغم ذلك، فالحمض النووي هو أكبر مقياس لتمييز الأفراد، ولهذا فكر العلماء في عمل قاعدة بيانات للأحماض النووية تستخدم في تحليل الأمراض والدراسات الطبية، والبصمات الوراثية من خلال تسجيل ملامح الحمض النووي. وهي تفيد في دراسات بعض الأمراض وعلاقتها بالجينات، وبالتالي العثور على بعض الأدوية الجديدة أو العلاجات الفعالة للسيطرة على هذه الأمراض.
• تخزين البيانات الرقمية. يختزن الغرام الواحد من الحمض النووي «دي إن إيه» معلومات بقدر ما يختزنه ألف مليار قرص كومبيوتر، ويستطيع أن ينجز 2 × 1910 عملية ربط بالجول الواحد في درجة حرارة الغرفة، علماً بأن أفضل الكومبيوترات الحالية ينجز 910 عملية فقط بالجول الواحد، وأن الحد الأقصى الذي لا يمكن تجاوزه ثرموديناميكياً هو 34 × 1910 عملية في الجول الواحد.
يمكن أن تملأ المعلومات الموجودة في الحمض النووي «دي إن إيه» مجموعة من الكتب يصل ارتفاعها إلى 60 متراً أو 200 دليل هاتف، كل واحد منها مؤلف من 500 صفحة.
وأثبت الباحثون في جامعة نيوساوث ويلز أن تخزين البيانات في الحمض النووي بات أمراً ممكناً. ولقد بات من الممكن حالياً أن يتم الحفاظ على إرث البشرية جمعاء، بطريقة تخزين أفضل في قواعد البيانات المشكلة من الحمض النووي.
وكما يشير المبتكرون، قد تكون هذه التقنية بالفعل قابلة للحياة اقتصاديا وجذابة لبعض المحفوظات الأرشيفية الحكومية، والمشاريع العلمية التي تولد كميات هائلة من البيانات المهمة واسعة النطاق مثل تجارب فيزياء الجسيمات وعلم الفلك والطب.
الجينوم السعودي
يعتبر مشروع الجينوم السعودي أول خريطة للصفات والخصائص الوراثية للعرب على مستوى الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، الذي يكشف ويحدّد الطفرات الوراثيّة المسببة للأمراض الوراثيّة في المجتمع السعودي، وتوثيق أول خريطة وراثية، والذي سيقود إلى تخفيض تكاليف الرعاية الصحيّة.
يهدف المشروع إلى إنشاء قاعدة بيانات وطنيّة خاصة بالأمراض المعدية بالمملكة، ولتطوير منظومة معلوماتية تفاعلية متكاملة تساهم في الحد من انتشار أمراض وراثية شائعة في المجتمع السعودي. وستفيد جميع مخرجات المشروع المجتمع بطريقة مباشرة بما يتلاءم مع أهداف برنامج التحول الوطني ورؤية 2030.
وشهدت السنوات الماضية ثورة علمية كبيرة في التقنيات الحيوية أدت إلى توافر كميات هائلة من المعلومات حول تراكيب ووظائف المكونات الخلوية والحيوية الدقيقة وبخاصة الحمض النووي، والبروتينات. وتمثلت هذه المعلومات بشكل رئيسي في سلاسل الأحماض النووية والأمينية والخرائط الوراثية (الجينوم) للكائنات الحية والتراكيب الثلاثية الأبعاد للبروتين. وواكب هذه الثورة تطور كبير في مجال المعلوماتية، مما أدى إلى اندماج معظم هذه التقنيات معاً لتحليل تلك البيانات الضخمة والتوصل إلى حلول علمية كثيرة أدت إلى تثوير العديد من القطاعات العلمية والصناعية وفك غموض العديد من الأسرار العلمية الدفينة.
تطبيقات وعلوم جديدة
> تطبيقات طبية. اهتم العلماء بالتطبيقات الطبية بشكل كبير، نظراً لأن فهماً أفضل لكيفية انتظام الجينات ودورها في الخلية وفي تطور الكائنات، يفتح الباب أمام تصميم علاجات تتناسب مع المواصفات الوراثية للإنسان، وشكّلت المعلومات الجينية المكتشفة، الأساس لتصميم الكثير من الأدوية ومُكوّناتها.
وفي مقابل هذا التدفق المعلوماتي الكبير، واجه العلماء تحديا تمثل في إيجاد سُبل التنقيب والبحث عن معلومات مُحدّدة، بطريقة سريعة وفعّالة، وبات العثور على المعلومة المطلوبة يُشبه محاولة العثور على إبرة في كومة من القشّ.
> علوم جديدة. وتطلب التطور في المعرفة انبثاق علما جديدا هو علم المعلوماتية الحيوية أو «بيوإنفورماتيكس bioinformatics» وهو علم يدمج الحاسوب مع الرياضيات والجينوم، ويتعامل مع الخلية والحمض النووي كما لو أنها حاسوب. كما يستهدف هذا العلم البحث عن المعلومات في كم هائل من البيانات للتوصل إلى الأسرار في صفاتنا الوراثية، وفهم أعمق لكيفية تفاعل هذه المكونات داخل وخارج خلية الكائن الحي، في مختلف الظروف التي تواجهه في حالة الصحة والمرض.
وقد انبثقت العديد من العلوم الحديثة الأخرى ذات العلاقة الوثيقة بالحمض النووي أهمها: حوسبة الأحياء، والأحيائية الرياضية، والجينوميات، والبروتيوميات، الذي يهتم بدراسة البروتينات الناتجة من المورثات، وتراكيبها وتفاعلها، وغيرها من العلوم البازغة الجديدة التي تستعمل في اكتشاف وتطوير العقاقير الطبية.
*عصر التحرير الجيني. يعد التحرير الجيني طفرة طبية كبيرة تُفضي إلى قدرة البشر على التدخل الجيني بشكل كبير، والتحكم في الحمض النووي لعلاج الأمراض المستعصية. وتهدف تقنيات التحرير الجيني إلى «إعادة كتابة المادة الوراثية» لأي كائن حي. واستخدم العلماء تقنية «كريسبر CRISPR» في التعديل الوراثي للكائنات الحية، وأهم غايات التحرير (أو القصّ) الجيني هي علاج الأمراض المستعصية على الطب الحديث كالإيدز والتهاب الكبد الفيروسي والبتا ثالاسيميا. وتعمل تقنية «كريسبر» بمثابة مشرط جيني يقطع الحمض النووي للمريض، ويستهدف ويصلح الجينات التي تمثِل خطورة محتملة للإصابة بالأمراض. وقد تجعل هذه الطريقة بعضَ الأمراض المحددة، بما في ذلك ألزهايمر، وأمراض الخلايا المنجلية، وبعض أشكال السرطان، جزءاً من الماضي. وبينما تواجه، العلاجات التقليدية للأمراض المزمنة، عادة، الأعراض فقط، توفر هذه الطريقة المبتكرة احتمالاً للشفاء الكامل عن طريق مهاجمة المرض من المصدر. وهناك أيضا العديد من العلوم الناشئة التي تستغل هذه الثورات التقنية غير المسبوقة والتي تتزايد كفاءتها يوما بعد يوم، مما سيكون له العديد من الآثار العلمية ويبشر بثورة طبية شاملة في مجالات التشخيص والعلاج. وتستمر الآثار المترتبة على اكتشاف أسرار اللولب المزدوج.
– استشاري طب المجتمع