كل المناسبات المتوافرة أخذت تشكل فرصة للرئيس الفرنسي لمهاجمة تركيا بسبب دورها المتنامي في ليبيا. ويبدو اليوم أن هناك شيئاً يشبه توزيع الأدوار بين قصر الإليزيه ووزارتي الخارجية والدفاع للتنديد بالدور التركي في ليبيا، لكن أيضاً في مياه المتوسط، وذلك تخوفاً من الأطماع التركية في ثروته الغازية والنفطية، وإصرار أنقرة على مواصلة التنقيب في مياه متنازع عليها. كما لم يفت ماكرون أن يعود مجدداً للتنديد بأداء تركيا داخل منظومة الحلف الأطلسي، استناداً إلى الحادثة البحرية التي حصلت في مياه المتوسط في العاشر من يونيو (حزيران) الماضي، وكادت تفضي إلى اشتباك بين الفرقاطة الفرنسية «لو كوربيه» وقطع بحرية تركية، رفضت تفتيش سفينة شحن يُعتقد أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إلى ميناء مصراتة.
بدايةً، يشدد ماكرون على «الحاجة في هذه المرحلة إلى توضيح لا غنى عنه للسياسة التركية في ليبيا، والتي هي مرفوضة بالنسبة إلينا». وحسب أوساط فرنسية، فإن ما يريده ماكرون من شركائه داخل الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي «مراجعة جدية» للدور التركي، وهو ما تنادي به باريس في هذين المحفلين. والحال، أن جلّ ما حصلت عليه، رغم الضغوط المتواصلة، هو فتح تحقيق أطلسي عسكري لـ«توضيح ما حصل» في الحادثة البحرية المشار إليها، الأمر الذي لا يرضي باريس أبداً.
كذلك، فإن مطلب وزير الخارجية لو دريان حول «ضرورة أن يفتح الاتحاد الأوروبي سريعاً جداً مناقشة بلا محرمات ومن دون سذاجة، حول آفاق العلاقة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة، وأن يدافع الاتحاد الأوروبي بحزم عن مصالحه الخاصة لأنه يملك الوسائل للقيام بذلك»، لم يثمر حتى اليوم أي نتيجة. وبعد أن ندد الإليزيه بالدور التركي في ليبيا الذي وُصف بـ«الخطير»، شدد أول من أمس، على أن أنقرة هي «الطرف الخارجي الأول»، الذي يتدخل في ليبيا، حيث يضرب الرئيس إردوغان عرض الحائط بتوصيات مؤتمر برلين «بداية شهر يناير (كانون الثاني) الماضي»، و«لا يحترم أياً من التزاماته». إضافة إلى أنه ضاعف الوجود العسكري في ليبيا، و«استقدم مجدداً وبشكل كبير مقاتلين جهاديين من سوريا». كما وصف ماكرون مسؤولية تركيا بـ«الكبيرة»، وقال إنها «تاريخية وإجرامية لـ(بلد) عضو في الحلف الأطلسي، أو على الأقل يدّعي أنه كذلك».
ولا تتوقف مآخذ ماكرون عند هذا الحد. فقد استبق القمة الأفريقية – الفرنسية في نواكشوط، أمس، بالتنبيه إلى المخاطر التي يمثلها الوجود التركي في ليبيا، الذي «لا يمكن القبول به لأنه يشكل تهديداً لأفريقيا ولأصدقائنا في تونس والنيجر وتشاد ومصر، كما أنه تهديد لأوروبا» وفرنسا في المقدمة، وفق القراءة السائدة في باريس.
وترى أوساط فرنسية متابعة للملف أن ما تقوم به تركيا هو «السعي لإعادة الخلافة العثمانية» إلى مياه المتوسط الغربي، وأنها تشكل «تهديداً استراتيجياً» للمصالح الفرنسية والأوروبية في الجوار الأوروبي المباشر. والتخوف أن يستخدم هذا الحضور كـ«منصة» للتوسع من جهة، وللإمساك بورقة الهجرات غير الشرعية من الشواطئ الليبية باتجاه أوروبا التي لا تبعد شواطئها الأقرب إلا 200 كلم عن ليبيا.
ويوماً بعد يوم، تتراكم الملفات الخلافية بين باريس وأنقرة، وتتسع دائرة الاتهامات المتبادلة. فمن جانبه، يكثف ماكرون اتصالاته مع الأطراف الإقليمية والدولية لقرع ناقوس الخطر، والتحذير مما تحمله السياسة التركية جنوب المتوسط من تهديدات من أنواع مختلفة. فمن جهة، سعى من خلال اتصالين هاتفيين مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى تنبيهه من الدور التركي، ومن الذين يرون فيه وسيلة لاحتواء التمدد الروسي إلى مياه المتوسط الجنوبي. وترى المصادر الفرنسية أن «مزيداً من الحضور التركي لا يعني حضوراً روسياً أقل». كما سعى مع الرئيس الروسي إلى التأكد من أن الهدنة المطلوبة، والتي يفترض أن تفضي إلى وقف لإطلاق النار يجب أن تمر عبر «تجميد» خطوط القتال حيث هي، بحيث تقطع الطريق على تقدم لقوات الوفاق نحو سرت والجفرة. كما سعت باريس مع الطرف الإيطالي إلى لجم خلافاتهما السابقة، حيث إن كليهما متضرر من تنامي النفوذين التركي والروسي، وما قد يؤول إلى تقاسم «مناطق النفوذ»، ما سيؤذي مصالح الطرفين معاً.
ولم يغفل ماكرون الجوار العربي لليبيا. فبعد استقباله للرئيس التونسي في باريس، تواصل مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، فيما الخطوط مفتوحة دائماً بين باريس والقاهرة. وللتذكير فإن ماكرون رأى أن مخاوف الرئيس السيسي مما يحصل في ليبيا «مشروعة».
ولا تتردد وسائل الإعلام الفرنسية بالقول إن باريس أصبحت في موقع «ضعيف» في ليبيا، بعد التطورات الميدانية الأخيرة. لكن ما هو واضح اليوم أن الدبلوماسية الفرنسية تسعى لبناء «جبهة» تناهض الدور التركي، وتعيد تظهير توصيات مؤتمر برلين والسعي للحل السياسي. لكنّ ذلك يتعين أن يمر عبر تجميد خطوط القتال، وهو ما لم تقبله تركيا وتتجاهله حكومة فائز السراج. لذا، فإن كل السيناريوهات ما زالت مفتوحة على المصراعين.