ليس في وسع أي «زعامة» سياسية سنية في العراق ادعاء مسألتين أساسيتين. هذا ما يرصده المراقبون على الأقل. الأولى أنها فاعلة ومقبولة من غالبية المواطنين السنة في محافظات العراق المختلفة، والثانية أنها من حيث التأثير في المسار العام للأحداث في العراق تعادل نظيراً لها في المجال «الزعاماتي» الشيعي.
هذا أمر شبه مؤكد منذ عام 2003. حتى إن السياسي السنّي ونائب رئيس الوزراء السابق صالح المطلك، قال في لحظة «مكاشفة وحقيقة» ذات يوم ما مفاده؛ إن «سنة العراق كلما انخرطوا في العمل السياسي وتركوا أعمال العنف، كلما همشوا أكثر وقلّ رصيدهم في السلطة».
في الاعتبار الأول، المتمثل بمقبولية الشخصيات السياسية على المستوى السنّي العام، تؤكد الوقائع أن شخصية بهذا الوزن لم توجد بعد ببساطة شديدة، فمحافظة نينوى الأكثر أهمية وتأثيراً على المستوى السنّي، بالنظر لاعتبارات عدد السكان (أكثر من 3 ملايين نسمة) وقضايا أخرى تتعلق بالتاريخ والثقافة والموقع الجيوسياسي، ينحاز سكانها تقليدياً للشخصيات الموصلية من أمثال آل النجيفي (رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي وشقيقه أثيل النجيفي محافظ نينوى السابق) وغيرهم، وليس من المتوقع أن يصوتوا في الانتخابات العامة لشخصيات أنبارية (محافظة الأنبار) أو من محافظة صلاح الدين، أمثال رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي أو النائب ذائع الصيت في محافظة صلاح الدين، أحمد الجبوري، حتى لو رغبوا بهذا، ذلك أن النظام الانتخابي السابق واللاحق ذا الدوائر المحلية المتعددة لا يسمح لهم، ولا تسمح بذلك أيضاً الحساسيات المحلية «غير المريحة» التي كانت قائمة على الدوام بين السكان في محافظات، نينوى وصلاح الدين والأنبار، وكذلك الحال بالنسبة لمحافظة ديالى المتنوعة إثنياً، ذات الأغلبية السنيّة.
ولا ننسى التذكير بأنه ليس لـ«زعماء» سنة العراق السياسيين أي علاقة أو تأثير يذكر بالمواطنين الكرد في محافظات إقليم كردستان (أربيل، السليمانية، دهوك، حلبجة) ذات الأغلبية السنيّة من قريب أو بعيد.
أما على مستوى الاعتبار الثاني، المتعلق بفاعلية «الزعماء» السنة على مستوى القرار السياسي العراقي، فالأمر يبدو أكثر من محير، أو على الأقل غير مشجع بالنسبة لعموم المواطنين السنة الراغبين بدور حقيقي في إدارة بلاد كانوا فيها حتى الأمس القريب سادة القرار وصناعه!
صحيح أنه ليس في وسع أحد التقليل من أهمية رئاسة أكبر سلطة تشريع في البلاد، وهنا يقصد بها البرلمان وسلطته التي ذهبت تقليدياً وطبقاً للعرف السياسي الذي شاع في العراق بعد 2003، إلى المكون السنّي، غير أن ذلك لا يفسر كل شيء في بلاد متناحرة تتقاذفها الولاءات الطائفية والإثنية مثل العراق. لهذا السبب، وربما لغيره، ظل منصب «رئيس البرلمان» منذ نحو 4 دورات نيابية رهيناً لإرادة الفاعل السياسي الشيعي، مهما قيل غير ذلك، لأن نواب هذا الفاعل شكلوا على الدوام أكثر من نصف أعضاء البرلمان! بل إن بعض رؤساء البرلمان السنة، اضطروا، تحت وطأة تحدي الإقالة إلى الاستعانة بنفوذ طهران في «أوقات العسر» للمحافظة على مواقعهم، باعتبار النفوذ الإيراني المشهود على غالبية الكتل الشيعية في مجلس النواب.
وحيال هاتين المعضلتين، عدم القبول الشعبي السنّي العام وضعف التأثير في القرار السياسي العراقي، لم يكف معظم «الزعماء» السنة عن محاولة جلب الانتباه والقيام بعمل مفيد في ظل هذه المعادلة المعقدة. ففي منتصف سبتمبر (أيلول) 2019 التأمت شخصيات سنيّة من داخل البرلمان وخارجه لتشكيل «جبهة الإنقاذ والتنمية»، واختارت رئيس البرلمان الأسبق (الموصلي) أسامة النجيفي رئيساً لها. كان الهدف المعلن هو إنقاذ وإعمار المحافظات السنيّة التي اجتاحها «تنظيم داعش» بعد يونيو (حزيران) 2014. والضغط باتجاه إعادة إعمارها بعد تعرضها للحرمان وقلة الاهتمام من قبل السلطات الاتحادية عقب تحريرها من التنظيم الإرهابي عام 2017. غير أن المؤمنين بـ«دخول الشياطين في التفاصيل»، رأوا أنها كانت تستهدف في العمق النفوذ المتنامي لرئيس مجلس النواب الشاب محمد الحلبوسي المنحدر من محافظة الأنبار، الذي يقود تحالفاً لقوى سنيّة منافسة يبدو عليها قدر من التماسك.
الأحد الماضي، قاد أسامة النجيفي تحالفاً جديداً تحت مسمى «الجبهة العراقية»، لا يبعد كثيراً عن ساحة التنافس مع الحلبوسي، تضمنت بحسب بيان صادر «المشروع العربي (خميس الخنجر) والجماهير الوطنية (أحمد الجبوري)، وجبهة الإنقاذ والتنمية (أسامة النجيفي)، والحزب الإسلامي (إياد السامرائي)».
وفيما شددت الجبهة الجديدة على «ضرورة إصلاح المؤسسة التشريعية بما يؤهلها لأداء وطني كفء بعيداً عن الاستحواذ والهيمنة»، رفض النائب السابق مشعان الجبوري رئيس «حزب الشعب» وعضو الجبهة البيان، وذكر أنه لا يمكنه القبول في الاشتراك بجبهة واحدة مع خصمه السياسي وعضو الجبهة أحمد الجبوري. كذلك استثمر العضو الآخر النائب علي الصجري خصومته مع رئيس البرلمان، ليعلن أن أهداف الجبهة إقالة الحلبوسي، الأمر الذي لم يؤيده رئيس الجبهة النجيفي.
أما النائب عبد الله الخربيط، القيادي في تحالف الحلبوسي «القوي»، فقد قلل من إمكانية نجاح التحالف في سحب الثقة عن رئيس مجلس النواب. وذكر في تصريحات صحافية أن «كرسي محمد الحلبوسي الحقيقي هو في قلوب أهل الأنبار التي عمّرها بـ85 مليار، بعد المحافظين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم عظماء، وبقيت الأنبار في مكانها رغم إنفاق تريليون دينار». وحول تحالف «الجبهة العراقية» قال الخربيط: «نحن كتلة وهم كتلة والتنافس السياسي شرعي وواجب ونحن في كل ميدان سنغلبهم».
في المحصلة الأخيرة، تبدو الشخصيات والقوى السنيّة منهمكة تماماً في التنافس الحاد فيما بينها بهدف ترسيخ وجودها سياسياً وشعبياً، في مقابل عدم اكتراث واضح من قبل المواطنين هناك، فيما بات يعرف بـ«المحافظات المحررة».