رغم الاكتمال العضوي لمخ الرضيع عند الولادة فإن الاكتمال الوظيفي والإدراكي يأخذ وقتا طويلا حتى يصل إلى الشكل النهائي المتعارف عليه. وليس المقصود هنا هو نمو حجم المخ مثل أي عضو آخر في الجسم، ولكن نموه الذي يهيئ له التعامل مع العواطف المختلفة كالبالغين حتى وإن اختلفت طرق التعبير عنها.
– استجابات غريزية
وعلى سبيل المثال فإن الطفل الصغير يبكي وربما يبتسم، لكن تبعا لردود أفعال غريزية في الجسم لا تحمل نفس معنى الأفعال عند البالغين، ولذلك فإن العواطف المختلفة مثل الحزن والفرح والخوف والغضب والغيرة وغيرها لا تكون موجودة بشكل كامل منذ الولادة، حيث يكون المخ ما زال في مرحلة التطور الأولي للمنطقة المسؤولة عن العواطف في القشرة المخية cerebral cortex والتي تحتاج إلى خبرة تراكمية لتكوينها.
وقد جاءت هذه النتائج في الدراسة الحديثة التي قام بها علماء أميركيون من جامعة أوهايو بالولايات المتحدة ونشرت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري في مجلة بلوس ون الطبية journal PLOS ONE حيث استخدم الباحثون أشعة الرنين المغناطيسي على مخ الرضع.
وتبين أن المناطق المسؤولة عن الإحساس تتصل عصبيا بالنظر أو السمع بشكل معين مخالف للبالغين. وهذا الاتصال العصبي هو المسؤول عن استجابة مناطق الإحساس في المخ تبعا للمؤثرات المختلفة مثل الإحساس بالخوف عند مشاهدة أفلام الرعب أو مشاهد مخيفة أو الشعور بالحب عند رؤية شخص من أفراد الأسرة أو الغضب عند سماع أخبار مزعجة أو نبرات أصوات عدوانية.
وهذه الصلة تأخذ عدة شهور عند الرضيع حتى تنضج بشكل كامل وحتى يستطيع ربط منظر معين بإحساس معبر عنه. وأوضح العلماء أن نتائج هذه الدراسة ربما تعتبر مفاجئة بالنسبة للعديد من الناس وأيضا لهم شخصيا. وتبعا للدراسة فإن الرضع يقومون بتحليل العواطف ويتفاعلون مع البيئة المحيطة لهم من مناظر أو أصوات بشكل مختلف عن البالغين ويكاد يكون بدائيا تماما وخاضعا لردود الأفعال التلقائية العصبية neural reflex الموجودة منذ الولادة.
– دلالات الأحاسيس
وبذلك تكون كل المشاهد المحيطة بالطفل سواء لأشخاص أو لأشياء تحمل دلالة غير دلالتها المعروفة بمعنى أن الرضيع الذي يبتسم لرؤية وجه معين يداعبه ليس لأن الوجه مألوف أو ودود ولكن كرد فعل عصبي ربما باللمس والعكس صحيح بمعنى أن بكاء الطفل ليس تعبيرا عن ضيقه بأحد المحيطين أو بشيء معين، ولكن يكون تعبيرا عن شيء آخر تماما وفي الأغلب يكون الجوع سببا له ولكن في أوقات كثيرة يكون بكاء الطفل تعبيرا عن الألم الناتج من المغص أو أي شيء آخر.
وقام الباحثون بعمل مقارنة بين إشاعات رنين مغناطيسي للمخ لـ40 من الرضع وكانوا جميعا أقل من عمر أسبوع وبين إشعات رنين مماثلة لـ40 من البالغين للبحث عن التوصيلات العصبية للمنطقة المسؤولة عن المشاعر في المخ amygdala وكذلك الجزء المسؤول عن ترجمة الإبصار visual cortex (هذه المنطقة تقوم بعمل تحليل للصورة المختلفة التي تراها العين وربطها بالعديد من العواطف والدلالات).
وتبين أن التوصيلات موجودة في البالغين والرضع ولكن بشكل مختلف تماما في الكيفية رغم وجود نفس النسبة العددية تقريبا.
وتعتبر هذه الدراسة مهمة ليس فقط لمعرفة التطور الوظيفي لمخ الرضع، ولكن أيضا لأن المنطقة المسؤولة عن العواطف والأحاسيس amygdala تلعب دورا كبيرا في العديد من الأمراض العصبية والنفسية التي تبدأ في الطفولة مثل التوحد والقلق. وكلما تمكن العلماء من فهم طبيعتها واكتشاف الصلة العصبية التي تربط بين أجزاء المخ المختلفة أمكن التدخل مبكرا والشفاء من هذه الأمراض.
وفي الرضع تتصل هذه المنطقة بالإبصار بكيفية معقدة لا تدخل فيها العواطف، بمعنى أن التركيز في الصورة القادمة من العين يكون على حدود الصورة الخارجية. وعلى سبيل المثال يمكن رؤية شخص وتحديد طوله أو حجمه الخارجي دون التركيز على ملامح الوجه والابتسام. وفي البالغين تكون هذه المنطقة متصلة بالجزء الحسي من مركز الإبصار بمعنى أن التركيز في الصورة يكون على الحدود الخارجية والتفاصيل الدقيقة أيضا مما يسمح بتدخل العواطف بشكل واضح، حيث التركيز على حدة النظرات والابتسام والتعبيرات المختلفة للوجه هي التي تتحكم في رد الفعل تبعا للصورة.
– خبرة بصرية
ويعتقد الباحثون أن الأمر لدى الأطفال يأخذ ما يمكن أن يطلق عليه الخبرة في رؤية الأشياء أو خبرة بصرية visual experience كافية تضيف قيمة عاطفية إلى الصورة التي تتم رؤيتها، وذلك يحدث تدريجيا مع النمو الوظيفي لهذه المنطقة في المخ.
وأوضح الباحثون أن التطور الوظيفي بين أجزاء المخ المختلفة يعتمد بشكل أساسي على العواطف المختلفة، وهو الأمر الذي يفتقده الرضيع. وعلى سبيل المثال في حالة رؤية كوب يحتوي على سائل ساخن جدا مثل الشاي تنتقل الصورة في الرضع والبالغين بنفس الكيفية ولكن أسئلة مثل ما هي طبيعة هذا الشيء؟ هل لمسه خطر أم لا؟ هل يتم شرابه من عدمه؟ هل يجب عليا الخوف من هذا الشيء؟
ومثل هذه الأسئلة هي التي تحدد طريقة التعامل مع هذا الشيء وعواطف البالغ تجاهه، بينما الرضيع يمكن أن يلمسه ويحدث الأذى نتيجة لشعوره بالألم لأن المخ لا يمتلك هذه المهارات الإدراكية بعد والتي تنشأ بشكل تدريجي، وهذا يعني أن الطفل الذي يتألم من لمس شيء ساخن يمكن أن يبكي لمجرد رؤيته بعد ذلك نتيجة للارتباط الشرطي conditional reflex للإحساس بالألم وليس بالإدراك.
– استشاري طب الأطفال