«عدم تقبل سكر الحليب» يعتبر من الحالات المرضية الحديثة نسبيا إذ تم التعرف عليه بشكل متزايد في السنوات الخمسين الماضية فقط رغم أن أبو قراط وصف أعراض هذا المرض قبل أكثر من 2000 عام. ومنذ الستينات اكتشف الباحثون أن عدم تقبل سكر الحليب مرتبط بالانتماء العرقي، وأنه حالة منتشرة عالميا أكثر من «تقبل» سكر الحليب. فما هي حالة عدم تقبل سكر الحليب؟ وما هي النتائج المترتبة عليها؟ وهل هي على أنواع ودرجات؟ وكيف يتم التعامل معها؟
– أعراض عدم التقبل
تحدث إلى «صحتك» بالشرق الأوسط الدكتور عبد الحميد داود قشقري استشاري الأمراض الباطنية والغدد الصماء والسكري مجيبا على كل تلك التساؤلات – وفي البداية عرف «عدم تقبل سكر الحليب Lactose Intolerance» بأنه عدم القدرة على هضم سكر الحليب نتيجة لعدم وجود كمية كافية من إنزيم اللاكتيز Lactase الذي يتم إفرازه في الأمعاء الدقيقة. أما «سكر الحليب Lactose» فإنه يوجد في الحليب ومشتقاته وهو سكر ثنائي يتكون من سكرين أحاديين اثنين هما الغلوكوز (Glucose) والغالاكتوز (Galactose). ولكي يتم امتصاص وهضم سكر الحليب في الأمعاء الدقيقة، يجب أن يتم تحويله إلى مكوناته بواسطة إنزيم اللاكتيز.
> ما هي النتائج المترتبة على نقص إنزيم اللاكتيز؟ يجيب الدكتور قشقري بأنه عند عدم توفر إنزيم اللاكتيز بشكل كافٍ في الأمعاء الدقيقة، ينتقل سكر الحليب الذي لم يتم امتصاصه وهضمه إلى القولون (الأمعاء الغليظة). ويتواجد في القولون، عادة، عدد كبير من البكتيريا التي تتغذى على النشويات ومن ضمنها سكر الحليب في عملية تسمى «التخمر Fermentation».
وينتج عن عملية التخمر مجموعة من الغازات مثل غاز الهيدروجين وغاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وهي التي تسبب الأعراض المزعجة وغير المريحة لعدم تقبل سكر الحليب.
> أعراض عدم تقبل سكر الحليب. أوضح الدكتور قشقري أن أعراض عدم تقبل سكر الحليب تظهر، عادة، بعد نصف ساعة إلى ساعتين من تناول المواد الغذائية التي تحتوي على سكر الحليب. ويمكن أن تشمل الأعراض على التالي: آلام البطن – انتفاخ البطن – الشعور بالامتلاء – الرياح والغازات – قرقرة الأمعاء – التكرع – الإسهال – الغثيان.
ويمكن أن تتفاوت هذه الأعراض من خفيفة إلى متوسطة إلى شديدة، ويعتمد ذلك على كمية سكر الحليب التي تناولها المريض وعلى كمية إنزيم اللاكتيز التي يستطيع المريض إفرازها.
– أنواع الحالات
أما عن تصنيف أنواع «عدم تقبل» سكر الحليب، فيقول الدكتور عبد الحميد قشقري إن هناك أربعة أنواع من عدم تقبل سكر الحليب وهي:
> أولا: عدم تقبل سكر الحليب (الأولي). هو مرض وراثي ينتج عن عدم وجود أليل (مورث) استمرار إنتاج إنزيم اللاكتاز لدى المريض، وهو الأكثر انتشارا، إذ يعاني منه ثلثا سكان العالم البالغين، لأن نسبة إفراز إنزيم اللاكتاز تقل تدريجيا بتقدم العمر. إن نسبة انتشار عدم تقبل سكر الحليب الأولي عالية جدا في آسيا (90 في المائة) وكذلك في أفريقيا (80 في المائة) وفي شمال أفريقيا والشرق الأوسط (70 في المائة) وفي جنوب أوروبا (50 في المائة)، أما في وسط أوروبا فهي منخفضة (15 في المائة)، وفي شمال أوروبا هي منخفضة جدا (5 في المائة).
> ثانيا: عدم تقبل سكر الحليب (الثانوي). إن عدم تقبل سكر الحليب «الثانوي» قد ينتج عن أمراض الأمعاء الدقيقة مثل مرض كرون ومرض التهاب القولون التقرحي، أو قد يكون نتيجة لتدخل جراحي في الأمعاء الدقيقة الأمر الذي يؤدي إلى نقص إفراز إنزيم اللاكتيز في الأمعاء الدقيقة وغالبا ما يشفى الإنسان المريض من هذا النوع بعد علاج المرض المسبب له.
> ثالثا: عدم تقبل سكر الحليب (النمائي). قد يظهر هذا النوع من عدم تقبل سكر الحليب «النمائي» لدى المواليد الخدج ويكون سببه هو الولادة المبكرة قبل الأسبوع الـ34 من الحمل ويمكن علاجه بتغذية الأطفال بالحليب الخالي من سكر الحليب.
> رابعا: عدم تقبل سكر الحليب (الخلقي). إن عدم تقبل سكر الحليب «الخلقي» حالة نادرة جدا وسببها خلل وراثي في الكروموسوم المسؤول عن إنتاج إنزيم اللاكتيز عندما يكون كلٌ من الأب والأم مصابين وينقلان الجين المورث للمرض إلى الأبناء. وهؤلاء الأطفال لا يستطيعون هضم الحليب منذ الولادة نتيجة انعدام إفراز إنزيم اللاكتيز بشكل كامل. وعند التعرف على المرض يمكن علاجه بتغذية الأطفال بالحليب الخالي من سكر الحليب.
– التشخيص
يقول الدكتور عبد الحميد قشقري أن أهم ثلاثة طرق للتشخيص هي:
> أولا: فحص الهيدروجين في هواء الزفير. هذا الفحص هو أدق الفحوصات في تشخيص عدم تقبل سكر الحليب، وهو اختبار سهل لكنه يتطلب بعض الوقت (حوالي ساعتين ونصف)، يتم خلالها قياس كمية الهيدروجين في هواء الزفير في فترات محددة (كل 20 دقيقة) بعد تناول 50 غراما من سكر الحليب المذاب في الماء.
إذا لم يُهضم سكر الحليب في الأمعاء نتيجة عدم توفر كمية كافية من إنزيم اللاكتيز، فإنه ينتقل إلى القولون حيث توجد البكتيريا التي تتغذى عليه وينتج عن طريق عملية التخمر هذه غاز الهيدروجين الذي يمكن قياس كميته في هواء الزفير، فإذا كانت كمية الهيدروجين عالية بعد شرب محلول سكر الحليب فإن ذلك يؤكد تشخيص عدم تقبل سكر الحليب.
> ثانيا: فحص السكر في الدم. في هذا الفحص يتم قياس مستوى السكر في الدم في فترات محددة عندما يكون المريض صائما وكل 60 دقيقة بعد تناول 50 غراما من سكر الحليب المذاب في الماء.
إذا لم يُهضم سكر الحليب في الأمعاء الدقيقة نتيجة لعدم توفر كمية كافية من إنزيم اللاكتيز فإن مستوى السكر في الدم يرتفع ببطء (أقل من 20 مليغراما/ ديسيلتر) أو لا يرتفع إطلاقا ونتيجة الفحص هذه تؤكد تشخيص عدم تقبل سكر الحليب.
في الحالات التي لا يُعاني فيها المريض من عدم تقبل سكر الحليب يرتفع السكر في الدم خلال ساعة إلى ساعتين بنسبة 50 – 100 في المائة. ومن المستحسن عمل فحص الهيدروجين في هواء الزفير وفحص السكر في الدم معا في نفس الوقت.
> ثالثا: فحص حموضة البراز. هذا الفحص يُجري لتشخيص عدم تقبل سكر الحليب لدى الأطفال، عندما تكون الفحوصات الأخرى لديهم ليست عمليةً، وهنا وكما ذكرنا أعلاه إذا لم يُهضم سكر الحليب في الأمعاء الدقيقة بعد تناول كمية من محلول سكر الحليب، نتيجة لعدم توفر كمية كافية من إنزيم اللاكتيز، فإنه ينتقل إلى القولون حيث توجد البكتيريا التي تتغذى عليه وينتج عن طريق عملية التخمر هذه حامض الحليب الذي يسبب حموضة البراز التي يجري قياسها. فإذا كانت نتيجة الحموضة تحت 5.5 فإن نتيجة الفحص تؤكد تشخيص عدم تقبل سكر الحليب.
– العلاج
يقول الدكتور عبد الحميد قشقري إن علاج عدم تقبل سكر الحليب الأولي، وهو الأكثر انتشارا في العالم، يعتمد على درجة شدة المرض. ويتضمن العلاج خطين رئيسيين هما: الحمية الغذائية وتعويض إنزيم اللاكتيز.
> أولا: الحمية الغذائية، وتشمل:
أ – التقليل من الأطعمة والمشروبات الغذائية التي تحتوي على سكر الحليب أو الامتناع عنها نهائيا. ورغم أن هذا النظام الغذائي هو أساس الحمية الغذائية إلا أنه صعب ومعقد ويضع المريض تحت ضغوط عالية للأسباب التالية:
– الحليب ومشتقاته هي مواد غذائية عالية الجودة ومصدر مهم للبروتين والكالسيوم والفيتامينات التي يحتاجها الإنسان.
– الكثير من الأطعمة والمشروبات تحتوي على سكر الحليب.
– المصدر الرئيسي لسكر الحليب هو الحليب بما فيه حليب البقر والماعز ومنتجات الحليب مثل الآيسكريم والجبنة واللبن والزبدة والمارغرين وشوكولاته الحليب والبسكويت والكيك والمايونيز.
– الحليب وسكر الحليب هما من المواد التي تضاف لكثير من الأطعمة المصنعة مثل النقانق، رقائق (الشيبس) البطاطس.
– سكر الحليب يدخل في تركيب الكثير من الأدوية التي تصرف بوصفة طبية أو تُباع بدون وصفة، والمكملات الغذائية التي تصنع على شكل حبوب وذلك لتحسين تماسكها.
– حبوب المحليات الصناعية تحتوي على سكر الحليب لتحسين تماسكها أيضا.
ب – استبدال الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على سكر الحليب ببدائل الحليب الخالية من سكر الحليب: مثل حليب الصويا، حليب اللوز، أو منتجات الحليب ومشتقاته المضاف إليها إنزيم اللاكتيز والتي تسمى منتجات خالية من اللاكتوز.
ج – تنظيم تناول الكالسيوم وفيتامين دي: لأن الأشخاص الذين لا يتناولون الحليب ومشتقاته يمكن أن ينشأ لديهم نقص في الكالسيوم وفيتامين دي.
– تعويض الإنزيم
> ثانيا: تعويض إنزيم اللاكتيز. وهو يعتبر الخط العلاجي الثاني المهم في علاج عدم تقبل سكر الحليب ويكون بتعويض نقص إنتاج إنزيم اللاكتيز عن طريق استعمال منتجات إنزيم اللاكتيز التي يجري إنتاجها صناعيا والتي يمكن أن تكون فعالة جدا، لكن فعالية هذه المنتجات تعتمد على الوقت الصحيح لتناولها لتصل إلى الأمعاء الدقيقة في الوقت المناسب لهضم سكر الحليب.
إن منتجات اللاكتيز متوفرة على شكل حبوب وكبسولات وقطرات ومسحوق وبجرعات مختلفة لكي يتناولها المريض قبل تناول الحليب ومشتقاته مباشرة. ويجب ضبط الجرعة التي يحتاجها المريض حسب كمية سكر الحليب التي يتناولها.
وكقاعدة عامة فإن المريض يحتاج إلى 3.000 وحدة (FCC) لكي يتمكن من هضم خمسة غرامات من سكر الحليب. إن (FCC) هي اختصار لكلمة (Food Chemical Codex) وهي وحدة قياس كمية إنزيم اللاكتيز في الحبة أو الكبسولة.
ويلخص الدكتور عبد الحميد قشقري كل ما سبق بإن عدم تقبل سكر الحليب هو ناتج عن نقص إنزيم اللاكتيز وهو ليس حساسية تجاه الحليب، إذ أن حساسية الحليب هي حالة مختلفة تماما وسببها رد فعل مناعي تجاه بروتين الحليب.
وعدم تقبل سكر الحليب هو من الأمراض الشائعة لدى البالغين على مستوى العالم، وهذا المرض لا يسبب ضررا للجهاز الهضمي فحسب ولكنه يسبب للمريض أعراضا غير مريحة وغير سارة كما يؤثر سلبيا على نوعية الحياة.
كما إن تشخيص عدم تقبل سكر الحليب أصبح اليوم ممكنا وبدقة عالية.
كما وإن علاج المرض أضحى، أيضا، متوفرا وآمنا. ويمكن علاج الحالات الخفيفة من هذا المرض عن طريق التقليل من الأطعمة والمشروبات الغذائية التي تحتوي على سكر الحليب، أما الحالات الشديدة فإنها قد تحتاج لتعويض نقص إنزيم اللاكتيز.
– استشاري طب المجتمع