في منتصف هذا العام (2020)، قرر المهدي الانسحاب من «قوى الحرية والتغيير» (الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية) بعد فشلها في الاستجابة لطلب حزب الأمة بإعادة هيكلتها وتحويلها من «تحالف» إلى «جبهة»، وبدأت ملامح ترسيم حلف سياسي جديد يجمع بعض الأطراف التي انشقت عن الحزب، وأحزاباً أخرى وبعض الحركات المسلحة التي كانت لا تزال تفاوض في منبر جوبا بجنوب السودان. وبدا واضحاً كأنما حزب الأمة القومي ينظر تلقاء الانتخابات أكثر من رجاء الحكومة الانتقالية المحاصرة بالأزمات.
وفي غمرة انشغال المهدي بترتيب تحالفاته الجديدة بعد توقيع اتفاق سلام السودان بجوبا، إذا بالحزب الشيوعي يلقي بحجر ثقيل على قوى الحرية والتغيير ويفرض خط تقسيم جديداً للملعب السياسي في السودان، يبدو فيه تحالف المهدي في كفة مقابلة لتحالف يساري يجمع الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين السودانيين وحركة تحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو.
كان واضحاً أن شمس عام 2020 لن تغرب قبل أن تنقسم القوى الحاكمة السودانية رسمياً بين كيانين متنافسين بشراسة على أنقاض الحكومة الانتقالية، لكن رحيل الصادق المهدي المفاجئ يغير المعادلة كثيراً.
رغم الدور المستمر لحزب الأمة القومي في المضمار السياسي السوداني، فإنه لم يكن حزباً مؤسسياً ينهض على هياكل تنظيمية داخل الحزب تحافظ على ثبات خطه السياسي وقراراته ومواقفه. كثير من قادة الحزب أكدوا أن شخصية الصادق المهدي كانت محورية في بناء مواقف الحزب، وفي ترسيخ دعائم الدور الذي يلعبه أفراد أسرته الأقربون.
ورغم قناعاته وأفكاره الديمقراطية كان المهدي حريصاً على تعزيز دور بيته وأسرته في إدارة الحزب وكيان الأنصار. وبعد توقيع اتفاق «نداء السودان» بدولة جيبوتي بين الحكومة السودانية (إبان نظام البشير) وحزب الأمة، الاتفاق الذي أدى إلى نفض الحزب يده من العمل العسكري مع التحالف الديمقراطي السوداني المعارض، المنطلق من العاصمة الإريترية أسمرا، عاد المهدي إلى الخرطوم وأسس مكتباً قيادياً جديداً من 17 عضواً، كان 9 منهم من أعضاء بيته الأقربين.
وفي اجتماع للمكتب القيادي في الفترة ذاتها استمع المكتب القيادي لتقارير عن ثلاث زيارات خارجية، الأولى قام بها المهدي نفسه إلى القاهرة، والثانية الدكتورة مريم الصادق المهدي ابنته إلى كمبالا، والثالثة السيدة سارة المهدي زوجته إلى بيروت؛ مما جعل أحد أعضاء المكتب القيادي يرفع صوته بالاعتراض على احتكار الأسرة تمثيل الحزب. وظلت علاقة بيت المهدي بالحزب واحداً من أهم بنود الخلافات التي أودت في النهاية بوحدة الحزب؛ فخرجت من تحت عباءته خمسة أحزاب تتسمى بالاسم ذاته «حزب الأمة» مع إضافة اسم مشتق للتمييز بينها.
وكان المهدي يقدم إجابة واحدة لسؤال مستمر عن دور أسرته، أنهم حازوا الريادة والقيادة بقدراتهم وتأهيلهم وكسبهم النضالي، وأنه لم يفرض على أحد من أسرته العمل السياسي، بل أتوه طواعية.
وخلال سيرة النضال السياسي في حقبتي الحكومة الحزبية (1986 – 1989) والعمل المعارض في التسعينات لم يظهر من القيادات قريباً من المهدي إلا صديق عمره المقرب الدكتور عمر نور الدائم، وابن عمه السيد مبارك الفاضل المهدي. الأول اختاره الغياب الأبدي، والآخر اختار الانشقاق بنكهة العداوة؛ مما أدى إلى مزيد من الانكفاء على الأسرة الصغيرة التي انخرط غالبية أعضائها من البنات والأبناء وحتى الأصهار في العمل السياسي من أعلى مستويات القيادة في الحزب.
مع رحيل الصادق المهدي يطل السؤال القديم المتجدد عن مصير الحزب بعيداً من البيت، وعن مصير البيت بعيداً من الحزب.
خارج البيت لا يبدو في الأفق السياسي سوى اسم واحد هو اللواء المتقاعد فضل الله برمة ناصر، نائب رئيس حزب الأمة القومي ووزير دفاع سابق، وهو رجل عُرف عنه هدوءه وأدبه الجم، ورغم خبرته الطويلة في العمل العسكري ثم السياسي، لكنه لا يحظى بقوة دفع كافية من مؤسسات الحزب أو حتى قواعده لاعتلاء منصب الرجل الأول في الحزب ليملأ المقعد الشاغر الذي تركه رحيل المهدي.
في المقابل، تطل الأسرة، بيت المهدي بخيارات متعددة تضمن استمرار الجمع بين قيادة الحزب وكيان الأنصار، الحاضنة الشعبية الأقوى للحزب. الاسم الأول المرشح لخلافة السيد الصادق المهدي هو اللواء «متقاعد» عبد الرحمن الصادق المهدي، ابنه الذي ظل شريكاً في أعلى سنام الحكم السابق حتى آخر لحظة لسقوطه في صباح الخميس 11 أبريل (نيسان) 2019.
والمرشح الثاني هو الدكتورة مريم الصادق المهدي الحائزة أيضاً بطاقة «نائب رئيس الحزب»، وهي الممثل السياسي للحزب في غالب النشاطات الحزبية داخل وخارج السودان، وتبدو الأقرب لأبيها في حركته وسكونه السياسي.
والمرشح الثالث المهندس صديق الصادق المهدي، رجل هادئ الطبع، حذر في تعامله وعلاقاته السياسية وحتى الاجتماعية.
رغم أن مريم تتفوق على المرشحين الآخرين في الخبرة والاحتكاك السياسي، فإنها تواجه معضلة حقيقية في كون القواعد الشعبية التقليدية تقدر المرأة ولا تقدر قيادتها للرجل، خاصة في مناطق تركز النفوذ التقليدي للحزب. ومع تضعضع القواعد الاجتماعية التي يعتمد عليها الحزب جماهيرياً، بسبب التآكل العمري ومتغيرات الأجيال الحديثة تبدو التضحية بولاء وعواطف ما تبقى من هذه القواعد الجماهيرية أمراً باهظ التكاليف للحزب؛ مما يضعف فرص مريم في الحصول على مقعد الرئاسة ولو مؤقتاً. هذه المعادلة تمنح الجنرال عبد الرحمن الصادق المهدي فرصاً أوسع تتوافق مع طموحاته في خلافة والده، لكنه هو الآخر يواجه الحاجة الماسة إلى عملية «غسل سياسي لتبييض مشاركته القيادية في النظام السابق»، رغم كونه مقبولاً لقواعد الحزب وبعض قياداته في المستويات الوسيطة.
في كل الأحوال، تتركز المعضلة الأساسية والمأزق الحقيقي الذي يواجه الحزب في الانقسام القديم المتجدد حول دول «بيت المهدي» وأسرته في قيادة مستقبل الحزب.
هذا الانقسام قد يوفر فرصة نادرة لمرشح رابع يأتي من خارج السياق الراهن لحزب الأمة، السيد مبارك الفاضل المهدي، أحد أكثر الساسة السودانيين إثارة للجدل في مواقفه المتقلبة. مبارك المهدي هو ابن عم الراحل انشق عنه في عام 2001 وناصبه عداءً مريراً، لكنه اقترب من مساومة تاريخية تنهي الخصومة وتعود به إلى البيت والحزب قبل أشهر قليلة، وأصبح في مطبخ صناعة التحالف الجديد لحزب الأمة بعد خروجه من قوى الحرية والتغيير. مبارك المهدي، قد يكون ترياقاً مناسباً للخلاف المنتظر حول دور الأسرة في الحزب، فهو سياسي عابر للحواجز النفسية المرتبطة بالعائلة بالنسبة للذين يتحسسون منها، ومقبول للقواعد الشعبية التقليدية التي تمثل الرصيد الجماهيري الموروث.
رحل السيد الصادق المهدي في منعطف تاريخي مصيري للحزب وتحالفه السياسي المنتظر، وللحكم الانتقالي الذي كان أحد أهم مؤسسيه ومثبّتي أركانه.