«استيلاء على سيادة العراق»، هكذا وصف ضابط في الجيش العراقي اللوحة الكبيرة التي تمجد قاسم سليماني، القائد الإيراني الذي قتل في غارة جوية أميركية على الأراضي العراقية في يناير (كانون الثاني) من عام 2020. وتطل تلك اللوحة الكبيرة على المنطقة الإدارية في العاصمة بغداد، المعروفة بالمنطقة الخضراء. وكان كثير من العراقيين قد أشادوا بسليماني، بصفته بطلاً لحشد القوات المحلية التي تقاتل عناصر تنظيم داعش في العراق، غير أن المعنويات العامة في العراق قد شهدت تحولات كبيرة منذ ذلك الحين.
قالت مجلة «إيكونوميست» البريطانية المرموقة إن واقع الأمر الحالي أصبح يعكس صورة مختلفة، إذ إن الجماهير التي كانت قد ابتهجت لإيران، بصفتها قوة محررة لهم، أضحت الآن تنظر إليها بصفتها قوة لاحتلال العراق، بينما يحاول السياسيون العراقيون تخفيف قبضتهم على مجريات الأمور.
ولا تزال الميليشيات المدعومة من إيران تسيطر على أجزاء كبيرة من العراق، لكن المجلة أشارت إلى أن كثيراً من تلك الميليشيات تورطت في القمع العنيف للاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اندلعت في عام 2019. وعلى الرغم من ذلك، فقد خفضت الميليشيات من ظهورها العام بصورة نسبية في الآونة الأخيرة، وأصبحوا يعلقون عدداً أقل من اللافتات التي تحتفي بذكرى قادة الميليشيات، ولا يظهرون في الشوارع في أغلب الأحيان. وأضافت المجلة أن هذا السلوك ربما سببه افتقادهم لتوجيهات قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس وهو زعيم جماعة تتألف من ميليشيات موالية لإيران وقُتل في الغارة الجوية الأميركية نفسها. وفي غياب التسلسل الواضح للقيادة، فإن الميليشيات تواصل الانقسام على ذاتها، ومن المتوقع أن يحتفلوا بذكرى الضربة الجوية باستعراض للقوة. فقد خرج آلاف المواطنين العراقيين في مسيرة في بغداد، وجرى عرض حطام السيارة التي قتل فيها سليماني، غير أنه لم تكن هناك ضربات انتقامية كبيرة ضد الأهداف الأميركية.
لقد استخدمت إيران بعض الساسة الشيعة لفترة طويلة في العراق لفرض نفوذها وتأكيده، لكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لا يلعب بالكرة الإيرانية. وعلى عكس معظم من سبقوه إلى المنصب، فإن الكاظمي ليس من حزب قريب من إيران. ومنذ توليه منصبه في مايو (أيار) الماضي، التزم بالعقوبات الأميركية على إيران، الأمر الذي منع طهران من الاستفادة من مليارات الدولارات التي تكسبها من الصادرات إلى العراق. وأشارت المجلة إلى علي شمخاني، رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، كان يستدعي بعض العراقيين إلى طهران، ويلومهم على عدم تحويل تلك الأموال.
وأزعج رئيس الوزراء العراقي كذلك الميليشيات الموالية لإيران، عن طريق استعادة سيطرة الدولة على بعض المعابر الحدودية، وإبعاد رجال الميليشيات من المواقع الأمنية. وبناء على طلبه، يستعد حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإرسال 3500 جندي جديد من قوات الحلف إلى العراق. وتقول ماريا فانتابي، الباحثة لدى «مركز الحوار الإنساني»، المجموعة البحثية المعنية بحل الصراعات، ومقرها جنيف: «تشعر هذه الجماعات المدعومة من إيران بأنها باتت مهددة للغاية في العراق».
ومن منطلق عدم الثقة الراهنة، فإن خصوم الكاظمي، وهو رئيس المخابرات الأسبق، يتهمون يتهمون بعض أعوانه بالابلاغ عن موقع سليماني إلى القوات الأميركية، مما أتاح لهم توجيه الضربة الجوية التي أدت إلى مقتله. وقامت بعض الميليشيات المؤيدة لإيران باغتيال بعض المقربين من الكاظمي، وطاردوا بعض مستشاريه في الخارج. وكانت جماعة تعرف باسم «كتائب حزب الله»، على علاقة بإيران، قد حاصرت منزله في يونيو (حزيران) الماضي بشاحنات صغيرة مليئة بالمسلحين، بعد أن تأهب لاعتقال بعض أعضائها المشتبه في قيامهم بقتل المتظاهرين. ومنذ ذلك الحين، أحجم الكاظمي عن مواجهة الميليشيات بصورة مباشرة، كما تضم حكومته وزراء من الفصائل الموالية لإيران الذين يحاولون زيادة عدد أفراد الميليشيات -البالغ عددهم أصلاً عشرات الآلاف- على حساب الرواتب الحكومية. ويتذكر مسؤول عراقي رئيس الوزراء وهو يقول: «إذا لم تدفع لهم، فإنهم سوف يقصفون القوات الأميركية»، لكنهم يفعلون ذلك في بعض الأحيان على أي حال.
وكانت الميليشيات المدعومة من إيران قد أطلقت عدة صواريخ على أفراد من القوات الأميركية والحليفة في العراق، في هجمتين خلال العام الحالي، كما استهدفت المملكة العربية السعودية في يناير (كانون الثاني) بطائرات مسيرة محملة بالمتفجرات، وفق ما ذكرت المجلة البريطانية. وإذا أصبح الكاظمي أكثر عدوانية تجاه الميليشيات، فإن ذلك قد يستدعي رداً من إيران التي تزود بغداد وغيرها من المدن العراقية بالكهرباء والغاز. وإذا انخفضت الإمدادات الإيرانية في أثناء الصيف، فربما يؤدي ذلك إلى اضطرابات كبيرة، بل ربما تستخدم إيران وكلاءها لمحاولة الاستيلاء على محافظات العراق الجنوبية.